ثروتنا النفطية بين الترشيد والتفريط
لقد خص الله ــــــــــ سبحانه وتعالى ــــــــــ هذا الجيل من أبناء الخليج بهذه الثروة النفطية الهائلة وأمكنهم من استخراجها في الوقت المناسب لتُدِرَّ عليهم الأموال الطائلة التي تزيد كثيراً على حاجتهم الآنية، امتحاناً لقدرتهم على التكيف معها وما تجلبه إليهم من الرفاهية المفرطة التي قد لا تكون في صالح مستقبلهم ومستقبل أجيالهم. وكنا، نحن أبناء الخليج إلى عهد قريب، وهو ما يزيد قليلاً على نصف قرن من الزمن، نعيش حياة تتناقض تماماً مع ما نعيشه اليوم من رغد في العيش ومن مستوى الخدمات الكثيرة والمتميزة المتوافرة لدينا والمؤسسات التعليمية والصناعية. كنا في الماضي نعاني شحا شديدا في المعيشة، حتى أنه كان بيننا الكثيرون ممن لا يجدون قوتهم اليومي إلا بشق الأنفس، وربما أن بعضهم من المعدمين الذين يظلون أياماً دون طعام. ولم يكن بإمكاننا آنذاك أن نوفر لأبنائنا أدنى مستوى من التعليم. وكنا إلى ما قبل عصر النفط نستخدم الدواب في حياتنا اليومية وفي أسفارنا القريبة والبعيدة. وبعد اكتشاف النفط، قُبيل منتصف القرن الماضي، خص الله ـــــــــــــ سبحانه وتعالى ــــــــــــ بلداننا بنصيب وافر من الاحتياطيات النفطية الضخمة التي نقلت مجتمعاتنا من عصر الفاقة والفقر وندرة التعليم، إلى حياة جديدة تكاد تُنسينا ماضينا القريب. وكان علينا ومن واجبنا أن نكون صريحين مع أنفسنا ومع أولادنا وأجيالنا القادمة، فلا نسرف في استنفاد ثروتنا الناضبة ونوهم أجيالنا بأن حياتهم ستكون على مدى الدهر كلها رفاهية ورغد من العيش، أو هكذا يبدو الأمر من صلب تصرفاتنا اليوم. وما نتج عن ذلك، إلا الترهل في الأبدان وخمول في العقول والاعتماد على الآخرين في جميع شؤون حياتنا. ألسنا نستورد تقريباً كل ما نحتاج إليه؟ وإذا أوهمنا أنفسنا وادعينا أن لدينا مصانع لإنتاج بعض المواد والأدوات البسيطة، استقدمنا لذلك عمالة أجنبية، لأن معظم شبابنا لا يسوغ لهم العمل الشاق الذي يحتاج إلى مجهود بدني وانتظام صارم. وما الذي يدفعهم للعمل والتعب ونحن لا نألو جهداً في الصرف عليهم بسخاء منقطع النظير ونوفر لهم جميع الخدمات التي يحتاجون إليها؟
ولا بأس من ذلك لو أن دخلنا الكبير يأتي من مصدر لا ينضب ومن مجهودنا وإنتاجنا وإبداعاتنا، كما هو الحال في بلدان كاليابان وكوريا والصين وشعوب أخرى. أما نحن، شعوب منطقة الخليج، فقد وجدنا أنفسنا نتسابق في إهدار ثرواتنا عن طريق إنتاج أكبر كمية ممكنة من النفط، حتى ولو كان الدخل الذي نحصل عليه يزيد كثيراً على حاجتنا الحقيقية بالنسبة لعدد سكان كل دولة. فتجد أن دولة لا يتعدى عدد مواطنيها عدة مئات من الألوف تُنتج أكثر من مليوني برميل من النفط في اليوم. وتُدرُّ عليها هذه الكمية أموالاً طائلة لا تعرف كيف تتصرف فيها. وتكون النتيجة أن أفراد شعبها يتفننون في كيفية الركون إلى الراحة وجلب الخدم واقتناء ما غلا ثمنه من المنتجات الخارجية وقضاء أوقات الصيف في مختلف ربوع العالم. ومما يدعو إلى الاستغراب والدهشة ما نسمعه ونقرأ عنه خلال السنوات الأخيرة عن عزم بعض تلك الدول ــــــــ هداها الله ــــــــ على زيادة إنتاجها الحالي بنسبة قد تصل إلى 25 في المائة دون أي حاجة لهذه الإضافة، متناسين أن ذلك لا يخدم مصالحهم الوطنية ولا هو في صالح أجيالهم القادمة التي ستنتظر نصيبها من هذه الثروة النفطية الجزيلة. ولكن من أين لهم أن يحصلوا على أدنى قسط منها ونحن قد أخذنا ننهش منها بقدر ما نشاء وليس بقدر ما نحتاج. ولا شك في أن كثيرين منا قد شاهدوا بأم أعينهم عيِّنة من شباب وشابات أهل الخليج وهم يتباهون في شوارع البلدان الأوروبية بما يملكون من أنواع المركبات الفاخرة ذات القِيم الخيالية أمام شعوب مُتحضرة ومُنتجة تأكل مما تزرع وتلبس مما تصنع. أما أبناؤنا، هداهم الله وأصلح أحوالهم، فيأكلون ويلبسون ويركبون ما يُنتج غيرهم، وذروة الطموح لديهم الحصول على أرقام مركبات مميزة تصل قيمتها الملايين. كل ذلك بسبب سوء التخطيط عندنا، وغياب النظرة البعيدة لمستقبل شعوبنا، وإصرارنا على استنفاد ثروتنا التي وكلنا الله عليها. وما هي يا تُرى الدوافع التي تحث المسؤولين على إنفاق المليارات من الأموال من أجل أن يرفعوا مستوى إنتاج النفط وهم يعلمون أن النتيجة هي تعريض حقول النفط المُنهكة إلى خطر قرب نضوبها؟ وهم في الوقت نفسه يُدركون أن شعوبهم تنعم برغد من العيش ومشاريعهم لا تنقصها مصادر التمويل.
وفي الواقع أن لا أحد منا يُقدِّر وضعنا، نحن أبناء الخليج، في وسط هذه الصحراء القاحلة التي لم تكن في الماضي تتحمل وجود إلا عدد قليل من السكان عند ما كانت الظروف البيئية والمناخية أفضل بكثير من حالها اليوم. فقد كان قسم كبير من سكان شبه الجزيرة العربية في الماضي يضطرون إلى الهجرة شمالاً على مدى القرون الغابرة بحثاً عن مصادر المعيشة، قبل أن تظهر الحدود وتُخترع جوازات المرور وتُسدُّ المنافذ. فما بالنا اليوم وقد تضاعفت أعدادنا مئات المرات وحوصرنا بين بحرين تحت أشعة الشمس الحارقة وغارت المياه وقل نزول الأمطار. وها هو النفط الذي أنقذنا الله به من الهلاك لا نحسن التصرف فيه، بل إنه أوجد منا أمة اتكالية ديدنها الإسراف في المأكل والمشرب، والتمتع بالفراغ، والتخصص في قلة الإنتاجية الفردية، وهو عكس ما يرشدنا إليه ديننا الحنيف ونحن أبناء مهبط الوحي وحاملين راية الإسلام!
وإذا كان لنا من كلمة أخيرة، فإننا نود أن نلفت نظر إخواننا الذين هم مُنشغلون في الإعداد لزيادة إنتاجهم على المستويات الحالية، وهي نفسها مرتفعة الآن وتُدرُّ عليهم أكثر مما هم في حاجة إليه، أن يُراجعوا أنفسهم ويفكروا بدلاً عن ذلك في إمكانية الترشيد وليس الزيادة. ونحن نعلم أن أسعار النفط على وشك أن تتجه نحو الصعود خلال السنوات القليلة المقبلة، مما يؤكد احتمال زيادة الدخول المالية لمنتجي النفط بصفة عامة، فليس ما يدعو إلى الخوف من تدني الأسعار والحاجة إلى مزيد من الدخل. أما الذي نحن فعلاً في حاجة إليه فهو حسن التصرف في ما نملك من المال، وصرفه في الأوجه التي تعود على جميع المواطنين وعلى مستقبل بلداننا بالخير. ونحن لسنا مع الذين يُصنفون دول الخليج "زيفاً" بأنها دول ثرية وغنية، وهي في الواقع تملك ثروة مؤقتة، إلا في حالة استخدام هذه الثروة الناضبة لبناء أجيال مُنتجة تستطيع العيش تحت أصعب الظروف بعلمها ومجهودها وإبداعها.