الهجرة معنى لا حالة
انقضى عام كامل بأيامه وأسابيعه وأشهره بلمح البصر، فالزمن بات رتمه سريعا مع سرعة الحياة العصرية، وها هو عام جديد يهل علينا جعله الله ـــ عز وجل ـــ عام خير وبركة على الجميع، وفيه ندعو جميعا لخادم الحرمين الشريفين ــــ شفاه الله وعافاه، بأن يعود إلينا، وقد أسبغ عليه المولى ـــ سبحانه وتعالى ـــ الصحة والعافية، وأن يحفظ بلادنا من كل الشرور التي تتطاير من حولنا، ومكن قادتها وشعبها لمزيد من النمو والرفعة والقوة ـــ بإذن الله.
العام الهجري يؤرخ بهجرة رسولنا ــــ صلى الله عليه وسلم ـــ من مكة للمدينة هربا بالدين من جور كفارها وصلفهم وسطوتهم، وهجرته- عليه أفضل الصلاة والسلام- هي أبرز أحداث تاريخ الإسلام، فمنها انطلق ــــ صلى الله عليه وسلم ــــ لوضع اللبنة الأولى للمجتمع الإسلامي في المدينة، ومنه بداية إنشاء الدولة الإسلامية، التي امتدت، فيما بعد بالفتوحات من فتح مكة العظيم حتى الفتوحات الكبرى، التي وصلت للأندلس في أقصى الغرب، لتتكون بعده هذه الأمة الكبرى على امتداد مساحة العالم اليوم.
في مثل هذه الأيام التي نودع فيها عاما، ونستقبل آخر، لا بد وأن تكون فيه الهجرة النبوية الشريفة حاضرة، حاضرة في معانيها وقيمتها لا في شكلها، نسترجعها لحظة بلحظة ليس كتاريخ يروى، ولكن كدروس وعبر نستلهم منها قيما، فالهجرة نقلة كبرى وعظمى في التاريخ الإسلامي، وليس مجرد حدث عابر، فهذا النبي الكريم الصادق الصدوق خرج مع صاحبه في رحلة التاريخ وهو مطارد، وقد استنفرت قريش قضها وقضيضها للإمساك به وقتله للخلاص من تأثيره المتنامي بنشر الدين الجديد، ليس من أجل النجاة بنفسه، بل بهدف وجود البيئة الصالحة لنشر الرسالة الإيمانية بالله وحده، ولتكون هي المشعل الذي ينير الطريق للبشرية لإخراجها من الضلال والضياع للهداية وكرامة الإيمان الحقيقي بالخالق الواحد الأحد.
هذه الهجرة المرتبطة بقدوم عام وانصراف آخر، حري بها أن يخصص لها كل الاهتمام والوقت إعلاميا وتعليميا، لتكون الهجرة هي محور حديثنا، وجل اهتمامنا بمناسبة كل عام هجري جديد، فالهجرة في معناها الإيماني هي هجرة لله، وليس هجرة للمكان ''وقال إني مهاجر إلى ربي إنه هو العزيز الحكيم''، وهي سمة الأنبياء ـــ عليهم السلام ـــ فسيدنا إبراهيم- عليه الصلاة والسلام- هاجر بعد أن لقي العداوة من قومه، خاصة من أبيه، وكذلك سيدنا موسي- عليه السلام- بهجرته لمدين هربا من جور وظلم فرعون، وكذلك محمد ــــ صلى الله عليه وسلم- بهجرته العظمى من مكة إلى المدينة.
إن الاحتفاء بالعام الجديد يجب ألا يكون عبثيا سطحيا مهرجانيا ومجرد احتفالية لهو ومرح، لأن هجرته ــــ صلى الله عليه وسلم ــــ لم تكن انتقالا ماديا وجسديا من مكان لمكان، بل انتقال معنوي من وضع الضعف والقلة والفرقة والجمود والمحاصرة، لوضع القوة، والكثرة، والوحدة، والحركة، والفعل، ولهذا علينا أن نربط مضي وقدوم عام جديد بالمناسبة، وهي هنا الهجرة العظمى من ناحية القيمة والمعنى، فالهجرة كانت فاصلا ما بين زمنين، زمن الدعوة في مكة، وزمن الدولة في المدينة، ومن هنا نقول إن علينا أن نعطي معاني الهجرة الشريفة الاهتمام، وأن نسلط عليها الضوء، ونجعلها نبراسا نستنبط منها معنى وقيمة الهجرة.
في وقتنا الراهن وبسبب ما نعانيه كأمة من ضعف وتراجع، كم نحن في أمس الحاجة إلى الهجرة، أسوة بنبينا ـــ عليه أفضل الصلاة والسلام ـــ هجرة من التخلف إلى التطور، هجرة من الضعف والهوان إلى القوة والاعتزاز، هجرة من التفكك للتجمع لنكون كالبنيان المرصوص، هجرة من التبعية وعبودية المادة لفضاء الحرية بقيمها ومعانيها السامية لا بقشورها ومظاهرها المزيفة، هجرة من الماضي بكل قيوده للمستقبل بكل انطلاقه، هذه هي الهجرة بمعناها الحقيقي، الهجرة من حالة سلبية لحالة إيجابية، وهي معنى هجرة المصطفى ـــ عليه الصلاة والسلام.