مدننا بين البناء والترميم

التنمية والنمو العمراني في المملكة تجربة تحتاج إلى تفرغ علمي لدراستها وإبراز أهم إيجابياتها وسلبياتها حتى نستطيع تدارس الرؤية المستقبلية لما يجب أن تكون عليه إدارتنا للمدن وتنميتها بما يحقق القضاء على عديد من الظواهر التنموية السلبية, وفي مقدمتها نقص المرافق والخدمات من توفير المياه وشبكاتها والصرف الصحي وتصريف السيول والخدمات الصحية والتعليمية والأمنية وما يرتبط بمتطلبات السكان, خصوصا توفير الأراضي لها, ثم وضع السياسات والنظم العمرانية التي تحكم تملك الأراضي والتصرف فيها وتوفير متطلباتها التنموية.
والمطلع على تجربة المملكة التنموية في مجال التخطيط والتطوير العمراني يرى أنها ركزت على مسار واحد هو ما يسمى تقسيمات الأراضي وبيعها دون تقديم أي خدمات لها, وهذه المرحلة بدأت مع بداية الطفرة الاقتصادية منتصف التسعينيات الهجرية من القرن الماضي حيث كانت الرؤية التخطيطية العمرانية في بداياتها الفكرية, وصاحبها غياب الأنظمة العمرانية, أو ما يسمى نظام التخطيط العمراني Planninj Act, الذي يحدد العلاقة التعاقدية بين الحكومة ومطوري ومخططي الأراضي وملاكها بحيث يتم من خلال ذلك تحديد المسؤوليات في تمديد شبكات المرافق العامة الأساسية مثل المياه والكهرباء والهاتف والصرف الصحي وطريقة ربطها مع الشبكات الداخلية للمخططات السكنية.
كان القرار في ذلك الوقت هو السماح لملاك الأراضي القيام بتخطيطها وبيعها دون تقديم أي خدمات أو مرافق فيها, وهذه الخطوة أدت إلى نمو المدن الرئيسة خلال سنوات بسيطة نمو عاليا, بحيث بدأت فترة الهجرة من المدن الصغيرة والقرى إلى المدن الرئيسة, وأصبحت الأرض خلال تلك السنوات وما بعدها عنصر استثمار وإحدى أدوات الثراء الرئيسة, ما أدى إلى استمرار الإقطاع والتملك للأراضي من خلال إحياء الأراضي واستخراج حجج الاستحكام, مع أن النظام كان يمنع ذلك, ثم جاء نظام منح الأراضي ودعم صندوق التنمية العقاري فأدى إلى الانتشار والامتداد الأفقي للمدن بشكل غير مسبوق, هذا الامتداد العمراني أو ما يسمى النمو العمراني لم يصاحبه توفير لشبكات المرافق ولم يتم خلاله تنفيذ عديد من مشاريع الخدمات العامة, إضافة إلى عدم قناعة بعض المسؤولين في ذلك الوقت بأهمية تنفيذ شبكات المرافق ضمن مجار خاصة بها تحد من كثرة الحفر والدفن داخل الأحياء, كما أن الاهتمام بموضوع شبكتي تصريف المياه والسيول وتصريف الصرف الصحي لم يحظ بالرضا من قبل مسؤولين آخرين لاعتقادهم أن مثل هذه المشاريع أو الشبكات تكاليفها عالية واستخدامها لفترة زمنية قصيرة جدا، مما يرون معه عدم الحاجة إليها.
كما أن مصادر التمويل للمشاريع التنموية الخدمية لا تخرج عن الدعم المالي المباشر من قبل وزارة المالية, وهذا الدعم المتمثل في ميزانيات الدولة السنوية يتأثر بالوضع الاقتصادي العالمي, كما حدث خلال منتصف الثمانينيات الميلادية من القرن الماضي, عندما انخفض سعر النفط وأدى ذلك إلى إيقاف تمويل عديد من مشاريع البنية التحتية لمدة تجاوزت عشر سنوات, ما أدى إلى استمرار النمو العمراني دون تقديم شبكات البنية التحتية, ومع الطفرة الاقتصادية الثانية خلال الأعوام القليلة الماضية عاد الدعم الحكومي لمشاريع البنية التحتية وبدأ كثير من المدن في تنفيذ شبكات الصرف الصحي وتصريف السيول وتطوير شبكات الطرق والشوارع, إضافة إلى تنفيذ عديد من المشاريع الخدمية مثل بناء المستشفيات والمراكز الصحية والمدارس ومواقع الإدارات الأمنية وغيرها من الجهات التي لم تأخذ فرصتها خلال الركود الاقتصادي السابق.
إن ما نعيشه اليوم من تنفيذ لمشاريع المرافق والخدمات ضمن البنية العمرانية المبنية لأحيائنا السكنية ضمن مدننا التي نمت خلال الأعوام الماضية يعد نوعا من الترميم لتلك الأحياء والمدن, هذا الترميم يتطلب مبالغ مالية عالية وجهودا غير طبيعية لوقت غير قصير ومشكلات تنفيذية تحتاج إلى الصبر وتضافر الجهود من أجل تجاوزها وإنجازها وتحمل أعبائها والاستفادة من الدروس التنموية التي يمكن تعلمها حتى تضمن عدم تكرار ما حدث خلال الأعوام المقبلة بدل ما عانيناه في السنوات الماضية من عدم تكامل بناء مدننا بشكل متوازن بين العمران والخدمات والمرافق العامة, ولعل أول وأهم الدروس هو القضاء التدريجي على ارتفاع أسعار الأراضي والانتقال بالأرض من عنصر استثمار إلى وعاء تنمية والحد من المضاربات العقارية, وثانيهما تنويع مصادر تمويل مشاريع المرافق والخدمات وعدم ارتباطها بقدرة الحكومة على التمويل, فقط دائما إيجاد مصادر تمويل أخرى مثل وضع رسوم على بيع الأراضي, هذا الرسم يذهب إلى صندوق تمويل توفير الخدمات والمرافق العامة, وثالثهما الحد التدريجي من البناء الفردي للمساكن وما يسببه ذلك من بقاء أحيائنا سنوات طويلة وهي تحت الإنشاء, والمطلوب هنا هو تطوير أحيائنا السكنية بشكل متكامل بحيث ينتقل الإنسان للمسكن وهو مكتمل المرافق والحي مكتمل المرافق والخدمات العامة.
إن مرحلة التنمية العمرانية والاقتصادية والاجتماعية القادمة في المملكة تحتاج إلى إعادة تطوير للإجراءات والأنظمة والممارسات والتمويل, كما تحتاج إلى إعادة صياغة لكثير من الممارسات التي تعودناها ونعجز عن الخروج منها مخافة التغيير, وعلى أساس أن التغيير لا يأتي بخير كما يعتقد البعض. ولموضوع مدننا بين البناء والترميم والدروس المستفادة عودة قادمة ـــ إن شاء الله.

وقفة تأمل:
''توكل على الرحمن في الأمر كله
ولا ترغبن في العجز يوما عن الطلب
ألم تر أن الله قال لمريم
وهزي إليك الجذع يساقط الرطب
فلو شاء أن تجنيه من غير هزة
جنته ولكن كل رزق له سبب''

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي