قوة لتعزيز علاقات التعاون مع العالم العربي والإسلامي
تمتاز حركة المجتمعات ووجودها وقوتها على طبيعة وشكل تركيبة المجتمع والتنوع فيه, فليس هنالك على مر التاريخ مجتمع خال من التنوع الإثني أو الديني, وغالبا ما تعرف تلك المجموعات باسم ''الأقليات''. وتعاني بعض هذه الأقليات في مختلف أصقاع المعمورة تهميشا على صعيد الحياة السياسية والاجتماعية, كما أن الغموض يلف مستقبلها.
وتشكل الهند نموذجا لهذا التنوع الديني، وثمة عوامل كثيرة تقسم الهند إلى طوائف اجتماعية ودينية مختلفة, إضافة إلى التفاوت الطبقي والاقتصادي الكبير, وهذا التنوع سبّب صراعا طويلا, وأحيانا عمليات قتل وحشية, ورغم ذلك لم يغير شيئا في خريطة الهند التي رسمت عام 1947 حتى أصبحت هذه الدولة أنموذجا عالميا للديمقراطية في العصر الحديث.
ولعل الخوض في مصطلح الأقلية ووجودها ومستقبلها يؤدي بالضرورة إلى استنتاجات شائكة للغاية, خصوصا ما يخص المسلمين في الهند, لكن التاريخ يشهد بأنهم وصلوا مبكرا إلى الهند من ناحية إقليم السند (باكستان اليوم) في أواخر القرن الأول الهجري (مطلع القرن الثامن الميلادي)؛ أي تقريبا في الوقت ذاته الذي بدأ فيه فتح الأندلس. وكان الإسلام قد وصل قبل ذلك بطرق تجارية ودعوية منذ سنوات الإسلام الأولى عبر مدخل كيرلا في جنوب غرب الهند, التي كانت مقصدا للتجارة العربية قبل الإسلام, التي تحمل اسما مُحوَّرا عن الأصل العربي (خير الله) في دلالة بالغة على تباين البيئة الصحراوية المعدمة والأرض الموسمية المملوءة بالخيرات.
وتزخر الهند بتراث إسلامي ولغوي وسياسي وسياحي يمثل جزءا من هويتها الثقافية على المستوى العالمي. ولم يكن المسلمون في الهند يعيشون على هامش الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية, بل كانوا أطرافا فاعلين فيها, ففي القرن العاشر الميلادي تمكن محمود الغزنوي من الانطلاق من أفغانستان ليضم إقليم البنجاب إلى دولته الكبرى, وكانت فتوحاته المهيبة في غرب الهند تمهيدا لسيطرة الحكم الإسلامي في القرن الثاني عشر الميلادي. وحكم المسلمون الهند ستة قرون، وتشكلت صورة الهند عالميا عبر حكامها المسلمين من الغوريين والخلجيين وآل تغلق والمغول, الذين لم يتركوا الساحة للاحتلال البريطاني إلا في منتصف القرن التاسع عشر, وفي القرون الستة التي تلت ذلك التاريخ خضعت فيها الهند لحكم إسلامي في معظم فترات تلك الحقبة,
خلال تلك القرون الطويلة سميت الهند في كتب الرحلات والأسفار ''قرص عسل النحل'' المتشابك في حلقاته الثقافية؛ موطنا للتعدد الديني والعرقي واللغوي, ومثالا حيا للتنوع داخل الوحدة. كانت الهند دولة ''عش ودع غيرك يعيش''، ووطنا رفع شعار ''تقبل الآخر كي يتقبلك'', كما تم تصويرها كأرض أنتجت حكما وتجارب في التعايش, وفي مقدمتها تلك الحكمة القائلة ''إذا كنت تعيش في سكينة وأمن فصل لربك كي ينعم جارك بما تنعم به''.
في كتابه ''اكتشاف الهند'' يعكس جواهر لال نهرو موقف الهندي المعتدل من الحكام المسلمين حين يقول ''في التاريخ الهندي أبطال سعوا إلى توحيد الهند وحمايتها, وفي مقدمتهم ''أشوكا, كبير, جورو ناناك, الأمير خسرو, جلال الدين أكبر, وغاندي''. جلال الدين أكبر مثله مثل غاندي لدى نهرو, فكلاهما بطل قومي أحدهما مسلم والآخر هندوسي. أما أورانكزيب, فقد رآه نهرو ''حاكما متعصبا أدت سياساته إلى إدارة عقارب الساعة إلى الخلف''.
وهناك عدة أماكن في الهند بوسعها اختزال تاريخ طويل من التطور الثقافي والسياسي الذي تركه الإسلام في الهند. فبين ضفتي نهر يامونا يتوزع حب الهندوس وكراهيتهم للحكام المسلمين, ضريح جلال الدين أكبر, وتاج شاهجهان يحظيان بتقدير الهندوس كرمزين للتسامح والتقارب بين المسلمين والهندوس, التركة التاريخية التي تركها المسلمون في الهند تعرضت لمحنة بالغة حين بدأ تقسيم الهند عام 1947. في ذلك العام شب صراع دموي على ''الجغرافية المقدسة'' للبلاد.
ويشكل المسلمون في الهند حاليا نسبة 14.5 في المائة من السكان, وهي نسبة كبيرة من حيث عدد السكان, حيث يزيد عددهم على 180 مليون شخص في بلد يزيد عدد سكانه على مليار نسمة. وعدد مسلمي الهند, هو ثاني أكبر معدل للمسلمين في العالم بعد عدد سكان إندونيسيا التي يعيش فيها أكثر من 200 مليون مسلم. لكن مسلمي الهند على الرغم من عددهم الكبير, لا يعيشون في أوضاع مريحة, فقد أظهرت دراسة جديدة مقلقة أن المستوى التعليمي للمسلمين الهنود يكشف عن فجوة كبيرة بين المسلمين وغير المسلمين, ويتطلب تدخلا طارئا. وبغض النظر عن الأسباب, فإنه لا يوجد هناك خلاف حول حقيقة كون المسلمين الهنود اليوم هم أقل تعليما وأفقر وأقصر عمرا وأقل تمتعا بالضمانات, وأقل صحة من نظرائهم غير المسلمين (هندوس وبوذيين ومسيحيين).
وترسم الإحصاءات صورة قاتمة عن وضع المسلمين المزري, ففي المناطق الريفية هناك 29 في المائة من المسلمين يحصلون على أقل من ستة دولارات شهريا مقارنة بـ26 في المائة لغير المسلمين, وفي المدن فإن الفجوة تزداد، حيث تصل نسبة من يحصلون على أقل من ستة دولارات يوميا إلى 40 في المائة بين المسلمين, مقابل 22 في المائة بين غير المسلمين. ويشكل المسلمون العاملون في قطاع الخدمات العامة 7 في المائة من عدد العاملين مقابل 17 في المائة لغير المسلمين. و5 في المائة في مجال النقل، و4 في المائة في حقل البنوك، وهناك 29 ألف مسلم فقط في الجيش الهندي, البالغ عدده 1.3 مليون عسكري.
في الوقت نفسه، هناك 30 في المائة من المسلمين الأميين في المدن, مقابل 19 في المائة من غير المسلمين. وهذه الأرقام متناقضة مع تلك التي تخص ''الـ900 مليون هندي الآخرين'', فهم على الرغم من نواقص وعيوب النظام السياسي والاقتصادي تمكنوا من التقدم إلى الأمام. وعدم تقدم المسلمين الهنود إلى الأمام ليس بسبب التمييز ضدهم من قبل الدستور الهندي, أو العراقيل التي تضعها الدولة الهندية.
لكن المسلمين الهنود لهم إنجازاتهم: فقد كان ثلاثة من رؤساء الهند من المسلمين (وهذا المنصب يجعل حامله قائدا للقوات المسلحة الهندية, ويعد أعلى منصب غير سياسي في الهند)، وآخرهم هو عبد الكلام الذي ما زال يحتل منصب الرئاسة. وفي الماضي كان هناك الرئيسان ذاكر حسين وفخر الدين علي أحمد. وكان عبد الكلام وراء تطوير ترسانة الصواريخ الهندية قبل أن يصبح رئيسا للجمهورية, وهو أكثر الأشخاص شعبية بين المواطنين الهنود.
كذلك، فإن من بين المسلمين الهنود, هناك لاعبة التنس الهندية الأولى سانيا ميرزا, وعظيم برمجي أغنى رجل في الهند, الذي يشغل رئاسة شركة ''ويبرو'', وهداية الله رئيس القضاة في المحكمة الهندية العليا, والمارشال زهير قائد القوة الجوية الهندية, والممثلون شاه روح خان وأمير خان وسلمان خان وسيف علي خان.
لكن قصص النجاح هذه تموه عن الموقع الحقيقي للمسلمين الهنود, إذ يمكن القول عن حق إن أغلبية ساحقة من المسلمين الهنود تتمنى المضي قدما والمشاركة في الرخاء الاقتصادي الناشئ في الهند, لكنها تواجه عوائق القوى التقليدية والزعامة التي تفتقر إلى الرؤية. ويقول زويا حسن أستاذ العلوم السياسية في جامعة جواهرلال نهرو في دلهي ''إن الزعامة السياسية لمسلمي الهند رجعية, وتمثل مزيجا غريبا من المحافظين التقليديين والزعماء الدينيين. ويتعين على المسلمين أنفسهم أن يجدوا الإجابات والزعماء الجريئين ذوي الرؤى ممن لديهم مقاربات أكثر تكاملا للبلد, ويمكنهم أن يأخذوا بأيديهم نحو الحداثة''.
ففي أول انتخابات أعقبت استقلال الهند كان رئيس الوزراء جواهر لال نهرو يشعر بالقلق من ضعف تمثيل المسلمين في السلطة. وفي عام 1953 التقت مجموعة من نخبة المسلمين لبحث تشكيل حزب سياسي، وتحدثوا عن ضعف تمثيل المسلمين في المناصب السياسية والوزارات المختلفة. وبعد نحو نصف قرن, ومع العيد الستين لاستقلال الهند لم يحدث تغير يذكر.
فنسبة المسلمين بين موظفي الحكومة لا تزيد على 5 في المائة, وفي شركة السكك الحديدية, وهي أكبر شركة من حيث عدد الموظفين, نسبتهم نحو 4.5 في المائة. وفي وزارة الخارجية 1.8 في المائة و4 في المائة في جهاز الأمن.
كما ينتشر الفقر والأمية على نطاق واسع بين المسلمين في الهند, فمستوى التعليم بين المسلمين أقل من المعدل الوطني, فنصف المسلمات لا يقرأن ولا يكتبن, وربع الأطفال المسلمين إما لم يدخلوا مدرسة مطلقا وإما تركوا الدراسة.
وإن 31 في المائة من المسلمين تحت خط الفقر، ولا يزيدون إلا بهامش ضئيل عن المنبوذين والقبائل الذين ما زالوا يمثلون الطبقات الأفقر في الهند.
ويقول الخبراء إن المسلمين في الهند يشعرون بمشكلات ''الهوية والأمن والمساواة'', حيث إن المسلمين يحملون عبء الوصم بعدم الوطنية, ورغم ذلك فإن الهندوس يسترضونهم, ولا أثر إيجابي لهذا يعود إليهم. وعن معاناة المسلمين بعد مرور ستة عقود على الاستقلال, يرى البعض أن وراء ذلك لا مبالاة الدولة التي لم تحرص على توفير المساواة في الصحة والتعليم والتوظيف.
لكن بعد 60 عاما وعلى الرغم من الطقوس العنيفة لولادتها استمرت الهند في البقاء, بل بدأت في الازدهار كأكبر ديمقراطية في العالم ودولة علمانية إلى حد بعيد. ويشير المؤرخ بيبان تشاندرا, على الرغم من تقسيم البلاد وكم الدماء التي أريقت فقد أصبحت الهند بلدا علمانيا وديمقراطيا. أعتقد أن هذه واحدة من أعظم الإنجازات في العصر الحديث.
وقال راماتشاندرا جوها في كتابه الواسع الانتشار تاريخ ''الهند بعد غاندي'' إن البزوغ الاقتصادي للهند اليوم يلفت الانتباه في كل أنحاء العالم, لكن قصة النجاح الحقيقية للهند الحديثة سياسية وليست اقتصادية. ويقول إنه من السابق لأوانه أن نقول إذا ما كان ازدهار البرمجيات سيؤدي إلى ازدهار عام. وأضاف, لكن بقاء الهند دولة واحدة بعد أن مر عليها 60 عاما من الاستقلال وبقاءها دولة ديمقراطية إلى حد كبير.. حقيقتان لا بد أن تجذبا انتباها أعمق.
وفي كل مرحلة من تاريخ الهند بعد الاستقلال واجهت أوراق اعتماد الهند كديمقراطية علمانية تحديات. ووصف البعض تطبيق الديمقراطية في الهند بأنه ''أكبر مقامرة في التاريخ.'' وقال منتقدون إن بلدا فقيرا ومتنوعا ومقسما مثل هذا لا يمكن أن يتحمل انتخابات حرة ونزيهة. واليوم الديمقراطية الهندية بعيدة عن الكمال, لكنها رسخت أقدامها, وأنها نجحت في الأغلب في توفير حرية الحركة والتعبير, لكنها أخفقت في الأغلب عندما يتعلق الأمر بعمل الساسة والمؤسسات السياسية.
وقال تشاندرا إن مكانة الساسة الهنود تراجعت على مر الأيام, وهناك قدر كبير من الفساد، وقدر كبير من تجريم السياسة, لكن هذا لم يقلل من حقيقة أننا بلد ديمقراطي فيه حريات مدنية. وفي بلد به ألف طبقة اجتماعية و22 لغة رسمية ولهجات أكثر بكثير وفي بلد تقطنه أغلبية هندوسية ويضم ثالث أكبر عدد من المسلمين في العالم فإن تنوعه مصدر قوة. وإلى حد ما أدرك الهنود أنه ما من سبيل آخر للعيش في سلام, والتفاهم هو أسلوب حياة في بلد لا تستطيع طائفة أو جماعة واحدة أن يكون لها التفوق.
وأعطى الزعماء الأوائل, لا سيما أول رئيس وزراء للهند جواهر لال نهرو, الهند الحديثة الولادة متنفسا من خلال تشجيع وجود هوية علمانية ووطنية ديمقراطية والدفاع عنها.
ورغم ما يقال عن وجود تفاوت ووجود حالة اغتراب داخلي يعانيها المسلمون، إلا أن المجال مفتوح لبناء الإمكانات والقدرات والتعلم والمعرفة في ظل الهند كدولة ديمقراطية وفي إطار المواطنة الهندية, فالمسلمون هنود أولا وأخيرا, ومساهمتهم في تعزيز مكانة الهند وتعزيز صورة التسامح ضرورية, وأيضا لهم دورهم في تطوير العلاقات الهندية والعالمين العربي والإسلامي.