بيان التعددية والتفاعلية وعدم تغليف السماء بالرصاص يسقط البيان الأول
صورة العالم العربي سياسيا واجتماعيا تتغير بشكل دراماتيكي يصعب التنبؤ به، وهذا التغير الذي يشهده العالم العربي ليس على صورة التغيرات التي شهدها العالم العربي في القرن الماضي عندما كان يأتي التغيير من قبل المؤسسة العسكرية ''على ظهر الدبابة''، وكان الناس لا يعرفون عن طبيعة هذا التغيير إلا من خلال إعلان البيان الأول للثورة عبر الإذاعة والتلفزيون الرسميين اللذين يحكمان تشكيل الرأي العام للجماهير ومصدر الأخبار الوحيد لطبيعة ما يدور من أحداث على الساحة السياسية المحلية والخارجية.
ولكن ما يحدث حاليا في ثورة الإعلام الاجتماعي الجديد أن هذا الشكل من الإعلام أضعف وسائل الإعلام الجديدة التي تتبع بيروقراطية الدولة لصالح القوى السياسية وهيئات المجتمع المدني، من خلال قضائه على احتكار المعلومات، وضمانه لانسيابها بحرية لا يمكن التحكم فيها.
فظهور الإعلام الإلكتروني إيذان ببداية تحرر الإنسان من أجهزة التوجيه الإعلامي التي تسيطر على عقله، وهو تحرر مزدوج يشمل حرية الإرسال، وحرية الاستقبال. ومن مظاهر هذه الثورة الإعلامية الجديدة وتسهيل الحصول على المعلومات وهي لا تزال طازجة من مصادرها المباشرة، فبمجرد نقرة على شاشة الكمبيوتر ينتقل القارئ من موقع إلى موقع أينما أراد على وجه الأرض، ويقرأ عن أي موضوع يشاء بأي لغة يفهم، دون مصادرة أو قيود.
وأدى ذلك إلى تسهيل إيصال المعلومات إلى الجمهور دون تحكم من الحكام المستبدين أو رجال المال المحتكرين لملكية وسائل الإعلام، وتوفير المعلومات الصحيحة هو أول خطوات التغيير، وقد كان احتكار أهل السلطة والثروة للمعلومات في الماضي من أهم الوسائل التي يحتمون بها.
وأصبح بالإمكان إيصال الرسالة الإعلامية بالشكل الذي يريده المرسل، دون تدخل موجه من أباطرة الإعلام، الذين اعتادوا التصرف في المعلومات التي تصلهم وصياغتها وإخراجها بالطريقة التي تخدمهم، على حساب المرسل الأصلي ورسالته، بل قد يقدّمون الرسالة بصورة تخدم نقيض ما أراد مرسلها.
ورخص ثمن الاتصالات، بل ومجانيتها في أغلب الأحوال، مما يجعلها متاحة للجميع، ولا مجال لاحتكارها من طرف الحكومات القمعية أو الشركات الاحتكارية. ومن فوائد رخص ثمن الاتصالات إشراك عامة الناس في المعلومات، وتلك هي الخطوة الأولى لاتخاذ الموقف السياسي الرشيد.
وأعطى الإعلام الإلكتروني القارئ فرصة اطلاع أكبر من الناحية الكمية، ففي جلسة واحدة أمام الكمبيوتر يستطيع القارئ أن يطالع عشرات المصادر الإعلامية، من جميع أرجاء العالم، ودون تكلفة مالية تذكر ورغم أن الحكام الدكتاتوريين يميلون إلى التضييق على تكنولوجيا الاتصال الحديثة مثل الإنترنت، خوفا من انفلات الأمور من قبضتهم، فقد بدأ الإعلام الإلكتروني يقضي على إعلام الورق ''الصحف''، وبدأ يضايق إعلام الصورة ''التلفزيون''، وهو مرشح للسيادة في المستقبل، بسبب الميزات العديدة التي يمتاز بها على الإعلام الاحتكاري التقليدي، ومن هذه الميزات: أن الإعلام الإلكتروني يعطي القارئ فرصة اطلاع أكبر من الناحية الكمية، ففي جلسة واحدة أمام الكمبيوتر يستطيع القارئ أن يطالع عشرات المصادر الإعلامية، من جميع أرجاء العالم، ودون تكلفة مالية تذكر، وهو أمر غير ممكن عمليا من حيث الوقت ومن حيث التكلفة، في التعامل مع الإعلام التقليدي. ويعطي القارئ حرية الانتقاء والمقارنة، من خلال الاطلاع السريع على العديد من المصادر المختلفة الرؤى والخلفيات، واستخلاص النتيجة التي يراها أقرب إلى الحقيقة، دون أن يظل أسيرا لرؤية مخصوصة، ولا تخفى قيمة ذلك في تحرير إرادة المتلقي في تعاطيه مع الوسيلة الإعلامية. ويمكِّن من القراءة المتخصصة، فلم يعد من اللازم استنزاف الوقت والجهد في تصفح الصحف بحثا عن موضوع معين، أو انتظار برنامج مخصوص في إحدى القنوات التلفزيونية، بل أصبح الإنترنت، بوسائل البحث في مادته، يمكنك من الاطلاع على الموضوع الذي تريد في الوقت الذي تريد.
وكذلك فإن طبيعة الإعلام الجديد مكنت من إيصال الرسالة الإعلامية إلى مدى عالمي، ويتجاوز القيود التقليدية التي تقيد التلفزيون والصحافة المطبوعة، فهذه تحدها حدود ''المكان'' فلا يتجاوز بعضها مساحة معينة من البسيطة، كما تحدها حدود ''الإمكان'' فلا يستطيع الجميع الوصول إليها لأنها غير مجانية، بخلاف الإنترنت فلا تحده حدود المكان، وهو مجاني أو شبه مجاني في العادة.
وقد وفر الإنترنت لحركات الإصلاح والتغيير إمكانات جديدة في مجال النضال السياسي، لم تكن موجودة من قبل، منها تسهيل سرعة الاستجابة للأحداث السياسية، والرد السريع على التحديات في سرعة قياسية، فلم يعد الأمر يحتاج إلى سيارات تحمل أبواقا وتجول في المدن لدعوة الناس إلى مسيرة، أو إنفاق مبالغ طائلة لترويج حدث سياسي في وسائل الإعلام التجارية، بل أصبح الأمر مجرد تحرير رسالة تعبئة واستنفار، وإرسالها إلى العناوين الإلكترونية لآلاف الناس في لحظة واحدة، أو نشرها على مواقع معينة في الشبكة الإلكترونية ليطلع عليها الآلاف، فيستجيبون للنداء.
وأدى كذلك تشويش أفكار الحكومات القمعية وخلخلة استراتيجيتها من خلال الحشد المتوازي، المتعدد الرؤوس والمنابع، حيث لا تستطيع القوى القمعية أن تحدد هدفها بدقة، أو تصوغ تكتيكا فعالا للقضاء عليه، بل لا تستطيع أن تحدد بدقة من يقف وراء الاحتجاجات الاجتماعية، مما يحول بينها وبين القدرة على عزله عن المجتمع. وهذا التشويش الفكري والاستراتيجي في أذهان القوى القمعية يشل تحركها، ويقضي على فاعلية ردها، ويختلف الأمر لو كان واضحا للسلطة أن وراء الاحتجاجات حزبا أو منظمة أو حركة.
مما يعني أن تسعينيات القرن الماضي حدث تغيير بنيوي في طبيعة وسائل الاتصال وتمكنت ثورة الاتصالات الحديثة من تغيير شكل وجه العالم، وفي الوقت ذاته أصبح الجميع في العالم على علم بطبيعة ما يجري من أحداث في اللحظة نفسها في أي مكان في العالم. ما يحدث في مصر الآن وسابقا في تونس يؤكد نهاية نظرية سيطرة الدول على تدفق المعلومات عبر الإعلام الإلكتروني الجديد وأدى ذلك إلى انهيار القدرة على السيطرة على تدفق المعلومات، بحسب لورانس بنتاك، الأستاذ بكلية مورو للاتصالات في جامعة واشنطن.
فثمة خط مباشر بين هذه الثورات والثورة في الإعلام العربي التي انطلقت منذ 15 عاماً، ويمكن للمرء أن يجادل بأن ما يحدث هو النتيجة الحتمية، فمطالب التغيير أصبحت ''فيروساً إلكترونياً'' ينتقل إلى الدول متسرباً عبر الحدود. لقد اتخذ النظام المصري خطوة غير مسبوقة بقطع خدمات الإنترنت وخدمات الرسائل النصية عبر الهاتف النقال في مناطق مهمة من مصر، ولكن كثيرين من أفراد الشعب المصري يملكون أجهزة الستلايت، وبالتالي فإن المواطن المصري كان يتابع ''دراما حية'' في الشوارع وعلى شاشات التلفزيون في جميع أنحاء العالم، وهو ما دفع أفراد الشعب إلى مغادرة منازلهم وتعريض سلامتهم الشخصية من أجل الانضمام إلى المتظاهرين. فحتى منتصف عقد التسعينيات من القرن الـ 20، ربما لم يكن بإمكان الكثيرين معرفة أين تجري الاحتجاجات.
ما تغير كذلك هو وصول القنوات الفضائية العربية ثم كانت شبكة CNN، وBBC والتلفزيون المصري متاحة على القمر الصناعي، إلا أن CNN وBBC ناطقتان باللغة الإنجليزية.
فجأة، تكشف للعرب نمط جديد من التغطية الإخبارية لم يكن معتاداً بالنسبة لهم في تقديم التقارير، وباللغة العربية حيث بدأت تتكشف أحداث خفية لفترات طويلة كما أصبحت تسمع من شخصيات كانت محظورة على محطات التلفزيون الحكومية.
واليوم، ثمة المئات من القنوات الفضائية العربية التي تمثل وجهات نظر سياسية مختلفة ومتباينة، كما انتشرت الصحف المستقلة ومواقع الإنترنت المختلفة التوجه في جميع أنحاء المنطقة، مما أوجد نوعا جديدا من الإعلام والإعلاميين الجدد الذين يرقبون ويرصدون المشهد الاجتماعي والسياسي ويشاركون في صياغته، ويعتبرون هذا الأمر من مهامهم الأساسية، وهو ما بدا جلياً في التغطية الإعلامية العربية الكثيفة للتطورات والأحداث في تونس، وهذا الجيش من الناشطين الإعلاميين المتمكنين من التعاطي مع أدوات مثل ''المدونات'' و''تويتر'' و''فيسبوك''، وغيرها من أشكال التراسل الفوري، هؤلاء الإعلاميون الجدد والناشطون المسلحون ''رقمياً''، شكلوا مزيجاً فتاكاً لما حدث في تونس وما يحدث في مصر.
إن انتشار الثورة التونسية وانتقالها إلى شوارع القاهرة بسرعة البرق ليست سوى دليل على أن مصطلح ''الثورة الرقمية'' قد اكتسب معنى جديداً تماماً في العالم العربي، كما يؤكد على فشل الأنظمة العربية على التكيف مع هذا الواقع المعلوماتي الجديد. ضمن هذا السياق لم يعد من الممكن لبلد قوامها 80 مليون نسمة أن تنفصل عن الشبكة المعلوماتية.
لقد فشلت محاولات الحكومة المصرية الأولية في منع الوصول إلى مواقع التواصل الاجتماعي، ''فيسبوك'' و''تويتر''، تماماً مثلما حدث سابقاً في تونس، والفضل في ذلك يعود إلى أدوات الالتفاف على الرقابة التي يستخدمها ''الناشطون الرقميون''، لذا لجأت الحكومة المصرية إلى قطع معظم خدمات الإنترنت، إضافة إلى قطع معظم خدمات الهاتف النقال، بغية إجهاض الجهود المبذولة لتنظيم احتجاجات وتظاهرات، لكنها أبقت على مزود إنترنت وحيد، وهو ما أعطى الناشطين شريان حياة. وحتى في حال فشل الانتفاضات والثورات، فقد بات في يد الشعوب سلاح ماضٍ عوّض إلى حد بعيد عن تصلّب شرايين الأحزاب السياسية التقليدية وعجزها عن تشكيل قوة ضغط فعّالة على الحكومات السلطوية لتحقيق الإصلاحات. وهذا ينطبق أكثر ما ينطبق على المنطقة العربية التي تشهد الآن ما قد يُثبت قريباً أنه ربيع الموجة الثالثة من الديمقراطية في العالم خلال التسعينيات، وقد بدأ يُزهر فيها، ولو متأخراً بـ 20 عاما، على يد الإعلام الاجتماعي الجديد الذي لم يعد شبكات للتواصل الاجتماعي، لكنه اليوم احتل مساحة كبيرة في مختلف المجالات، ولم تعتد تقتصر استخداماته على مجرد التواصل الاجتماعي، بل تعدى ذلك إلى كثير وأصبحت وسائل الإعلام التقليدية تستخدم تلك الأدوات الجدية في الإعلام كمصدر للأخبار.
وعمليا فقد شكل الإعلام الجديد منعطفا مهما في المشهد السمعي البصري العربي، نتيجة تسارع إيقاعات العولمة، وانبثاق معارضات من صنف جديد (إسلامية، مدنية)، وبسط شبكة الإنترنت لخيوطها في مجالات جديدة وبتقنيات غير مألوفة، وتراكم باقة الفضائيات الوطنية والدولية، المستقلة منها والرسمية، وتطور تكنولوجيات التواصل عبر الجيل الجديد من الهواتف النقالة... إلخ. كانت هذه التحولات ولا تزال موضوع دراسات تقنية، إبستيمولوجية، تاريخية، أنثروبولوجية، سيميائية. ونال ما سمي بالثورة الإعلامية العربية حيزا وفيرا منها.
إن الإعلام الجديد كسر المعادلة القائمة على الارتباط الحتمي بين النظام السياسي والمنظومة الإعلامية في العالم العربي، وباتت الميزانيات الضخمة التي تنفق على المؤسسات الإعلامية لتكون في خدمتها غير ضرورية، بعدما انتشر الإعلام الجديد بما يحمله من خصائص الديمقراطية في قلة تكلفته حتى أصبح كل مواطن إعلاميا، وفي إتاحته للتفاعل والتأثير وخيارات في المحتوى والصيغة.
لكن ثورة الاتصال التي أحدثتها الإنترنت غدت اليوم من أهم الوسائل التي تستعملها القوى السياسية المستنيرة لتحرير الشعوب من الفقر والجوع. ونشير هنا إلى بعض الإمكانات الجديدة التي يوفرها الإنترنت لهذه القوى في سعيها لبناء مجتمع العدل والحرية، خصوصا في مجالات البناء التنظيمي، والعمل الإعلامي.