سوق الأسهم السعودية: بداية جديدة؟
في مقال مفيد ومختصر للدكتور عبد الرحمن السلطان ("الاقتصادية" عدد رقم 4670 الثلاثاء 29 جمادى الآخرة 1427هـ) تحدث الدكتور باختصار عن انهيار سوق الأسهم وحذر من أن عزوف المستثمرين الصغار عن الاستثمار في السوق بحالتها الفوضوية الحالية قد يهدد بعدم عودتهم إليها مرة أخرى لانعدام الثقة وتفادياً للأخطار المرتفعة. وأنا أتفق مع الدكتور إلى هذا الحد ولكني أود تناول الموضوع من جانب أكثر تفاؤلاً.
كلا، لا أقصد أي تكهنات عن صعود وشيك في أسعار الأسهم ولكني أشير إلى ما توقعته منذ العام الماضي بأن السوق يحتاج إلى سنتين على أقل تقدير (والآن أرفع التقدير إلى ثلاث أو أربع سنوات) ليقف على قدميه من جديد وبأسس صحيحة ومنظمة هذه المرة.
فماذا ينتظر تحقيقه خلال هذه الفترة؟
قبل الإجابة أود تأكيد أن النتائج الإيجابية المنتظرة هي رهن صناع القرار وصناع السوق والشركات المساهمة في أن تتفاعل وتتكاتف كيدٍ واحدة لتأسيس أحد أهم القنوات الاستثمارية الطويلة المدى في الدولة السعودية.
أولاً: بناء قاعدة تنظيمية قوية وصلبة
من المؤكد أن غياب البناء التنظيمي الواضح والصلب لأي قناة استثمارية أو اقتصادية يعني دون شك مشاكل لا حصر لها فيما بعد، الأمر الذي تجلى بكل وضوح وللأسف في قناة اقتصادية رئيسية مثل سوق الأسهم السعودية. فمنذ السبعينيات، كانت البورصة السعودية خاضعة لرقابة مؤسسة النقد حتى حلول الألفية وإنشاء هيئة السوق المالية، وهو أمر ضروري لا محالة من حيث المبدأ. لكن من الواضح أنه منذ تسلم الهيئة لمهامها لم تكن القاعدة التنظيمية مكتملة من حيث القوانين والنظم التي تحكم الشركات، أما السلطة في فرض العقوبات والجزاءات كانت في صراع بيروقراطي تحكمه العلاقات وقوة الهوامير وضعف صلاحيات الهيئة.
يجب أن تتمتع الهيئة بسلطة جزائية مستقلة تستمد سيادتها من القانون والدولة بحيث لا تكون هناك مجاملات في العقوبات أو الجزاءات، لأن هذا من أهم عوامل مصداقية الهيئة أمام جمهور المستثمرين والمحللين، والأمثلة في الدول المتقدمة عديدة لا حصر لها.
ثانياً: فرض وممارسة الرقابة المشددة على الشركات المساهمة (إفصاح ـ شفافية ـ جزاءات)
برغم المجهود المشكور الذي تبذله الهيئة في هذا المضمار إلا أنه ما زالت لائحة القواعد التنظيمية للإدراج والإفصاح والشفافية تنقصها الشمولية والعديد من التفاصيل الدقيقة التي تحكم إغلاق الثغرات التي تتيح حدوث أخطاء رئيسية وثانوية في المستقبل. فعلى سبيل المثال مازالت "لائحة حوكمة الشركات" تنقصها بنود كاملة خاصة بالجزاءات والعقوبات المفروضة على الشركات التي لا تلتزم بالشفافية المطلوبة. حتى درجات الشفافية ومعايير الإفصاح ما زال ينقصها الكثير من التفاصيل الدقيقة ولا ترتقي إلى مستوى التطور التقني والتفصيلي المطلوب في مثل هذه اللوائح. فمثلاً يجب معرفة الأسس التي تنظم علاقة المستثمرين بالشركات المساهمة وكيفية الاتصال بالشركة من تخصيص خط مجاني وموظفين مسؤولين للرد عن جميع الاستفسارات. كذلك ـ على سبيل المثال - يجب أن يكون للشركة المدرجة موقع إلكتروني به صور لموقع الشركة يوضح نشاطها وأعضاء مجلس الإدارة بالصور والأسماء وغير ذلك من تفاصيل عمل الشركة.
أما من حيث أنشطة الشركة وأرباحها (أو خسائرها) التشغيلية فيجب أن تخضع قوائمها لأشد التمحيص وقواعد الإفصاح ليتمكن المستثمر والمحلل وأصحاب الشأن من معرفة مصادر الدخل والأرباح المحتجزة وسياستها الإدارية وهيكلة رأسمالها. هذه كلها مجرد أمثلة بسيطة عما أتوقع أن أقرأه في لائحة حوكمة الشركات وسياسة الإدراج.
وربما أنه من الأفضل في هذه الحالة استنباط اللائحة من قواعد الإدراج وحوكمة الشركات لأكثر أسواق الأسهم العالمية تطوراً مثل قواعد الإدراج Listing Requirements and Corporate Governance في بورصة نيويورك والتي هي على قدر عالٍ من الإحكام والتفصيل بحيث لا نحتاج إلى ابتكار لائحة مختلفة أو متميزة، وما سبقنا إليه القانونيون في أبرز الأسواق العالمية تطوراً لا يحتاج منا إلا إلى بعض الإجراءات القانونية لتبني القواعد المتكاملة نفسها والتي لا يجب أن تختلف كثيراً من بلد إلى آخر (وذلك منعاً للقائلين إن "نأخذ ما يناسبنا ونترك ما يخالفنا").
ثالثاً: توسع قاعدة المساهمين في السوق
وأقصد هنا نوعية المساهمين من هوامير إلى صغار المساهمين إلى صناديق الاستثمار إلى مستثمرين أجانب وغيرهم. وقد كتبت من قبل (مقالي في العدد 4613 بتاريخ 29 مايو 2006 وعنوان "الرأسمالية والاحتكار في سوق الأسهم: لا جديد") بأن مجرد نظرة فاحصة لشرائح المستثمرين في السوق تغني عن جميع التحليلات المالية والفنية لتوجهات السوق. فعندما يتحكم في رأسمال السوق أفراد قلائل فهو إشارة حتمية إلى فشله كقناة استثمارية معتمدة دون أي زيادة أو نقصان، وبنظري المتواضع أنها سوق كان محكوم عليها بالفشل لمجرد اختلال التوازن في مكونات رأس المال. والنتيجة كانت قناة لهدر الأموال بنسب إحراق عالية بدلا من استثمارها وتنميتها وادخارها "على نار هادئة"، وكانت نافذة رأسمالية لا تعكس قوة الاقتصاد السعودي، وكانت مسرحاً للتظلم وتبادل الاتهامات سمّاها بعض المتعاملين وكما جاء في المقال "سوق الحسايف".
رابعاً: رقابة على الأهداف الاستثمارية لصناديق الاستثمار السعودية
إلى يومنا هذا وبرغم جميع الاتهامات التي وجهت لصناديق الاستثمار في الأسهم السعودية، إلا أنه يجب أن نتذكر أن جميع صناديق الاستثمار لا تشكل سوى جزء ثانوي من الحجم الإجمالي لسوق الأسهم، إلا أن العامل الحقيقي الذي قد يحدث أثراً سلبياً في أداء السوق هو الأهداف الاستثمارية واستراتيجية إدارة الصندوق نفسه. لماذا؟ إذا كان صندوق الاستثمار يهدف إلى الاستثمار طويل الأجل وانتقاء الأسهم القيادية أو الـ Blue Chips بهدف تنمية رأس المال فهذا صندوق ربما لا يسبب تذبذباً قوياً في حركة السوق إلا عند موسم إعلان الأرباح أو التعديلات ربع السنوية لمكونات الصندوق. أما إذا كان الصندوق يتبع سياسة المضاربة فهو بلا شك هامور إضافي في سوق الأسهم يجب مراقبة سياسته الإدارية وأدائه بحرص من قبل المسؤولين والمستثمرين معاً.
والنتيجة إن شاء الله ستكون ميلاد قناة استثمارية موثوقة وطويلة المدى تصلح للادخار وملجأًً طيباً لأموال التقاعد. ولنأخذ مثلاً أسعار الفائدة في اليابان والتي طغت على العناوين الاقتصادية أخيرا. فما الذي حدث؟ ببساطة قرر المركزي الياباني رفع أسعار الفائدة بعد ما يربو عن خمس سنوات من الفائدة الصفرية. والمغزى أن اليابانيين يستطيعون الآن ادخار أموالهم وتنميتها بعد سنوات من الخسارة الكامنة في بقاء الأموال دون نمو يذكر، وذلك برغم وجود سوق أسهم عالية التنظيم في اليابان. إن ما نعانيه في السعودية هو أصلاً ندرة القنوات الاستثمارية الجيدة والعزوف العام عن الحسابات الادخارية Savings Accounts في البنوك لاعتبارات شرعية (برغم توافر صناديق المرابحة). أما أسواق العقار فلها حديث آخر ذو شجون وسوق الأسهم لحق بها من التدهور ما شهدناه نتيجة للأسباب التي نعرفها. إذن ماذا بقي لتنمية رؤوس الأموال وادخارها على المدى الطويل؟ وأين يمكننا تنمية أموالنا بشكل منظم ومقنن؟ الإجابة المنطقية الوحيدة في نظري هي هجرة الأموال إلى الدول المتقدمة وبالتالي المساهمة في اختلال ميزان رأس المال العالمي، وهذه قصة أخرى.
برغم استيائي من الهبوط الحاد لسوق الأسهم إلا أنني أرى فيه فرصة جيدة ونورا في نهاية الرواق يبشر بفجر جديد. لنضع أيدينا معا لبناء قاعدة صلبة تنظر إلى المستقبل، ولندع جانباً المصالح الشخصية والتهور والاندفاع السريع خلف الأرباح التي تتبدد بشكل غير مسؤول لا ينعكس علينا بخير. والله الموفق.