علم جديد لحماية العقول من.. «التكنولوجيا»!
ألقيت في العام الماضي محاضرة عن فوائد الإعلام الاجتماعي social media في مؤتمر في العاصمة اللبنانية بيروت، وبعد حديث حماسي مطول عن التطور الهائل الذي يحدثه الإعلام الاجتماعي اليوم، قامت سيدة لتلقي السؤال الأول، وبينما كنت أنتظر تفاعلا كبيرا من الجمهور، جاء السؤال مختلفا تماما عندما بدأت تعبر عن إحباطها الشديد من الإنترنت؛ لأنه شتت أسرتها، وحَوَّلَ جميع أبنائها إلى جزر منعزلة، وصار من الصعب الحصول على حديث عائلي شائق بعيدا عن تدخلات الموبايل واللابتوب.
هذا السؤال في الحقيقة جزء من هم عالمي ينمو سريعا مع خروج نتائج مكثفة لدراسات وأبحاث ترى أن التكنولوجيا تحدث أثرا سلبيا متفاوت الدرجات في سلوكيات الأطفال والنشء وقدراتهم الذهنية ومهاراتهم، وتجدد الحديث عن هذا الموضوع إعلاميا مع الشكوى المتزايدة لآباء وأمهات بسبب الإدمان الشديد للأطفال الذين تقل أعمارهم عن ثماني سنوات على أجهزة الآيباد بشكل لم يكن مسبوقا من قبل مع أجهزة الكمبيوتر أو الموبايل. هناك أيضا أمر ملحوظ في النشء, الذين ما زالوا في المدارس, وهو انخفاض عدد ساعات القراءة بشكل حاد مع الانشغال في مواقع الشبكات الاجتماعية وتتبع الفيديوهات على يوتيوب. بالنسبة لشعب مثل الأمريكيين, الذي يعد القراءة ركنا أساسيا من حضارتهم، مثل هذا الانحدار يعني باختصار انحدار مستقبل الثقافة عموما. إحدى الظواهر الطريفة في هذا الموضوع هي ما يلاحظه المشرفون في المدارس من أطفال متميزين جدا في استخدامهم المكثف للتكنولوجيا مثل صناعة الفيديوهات وتطوير المواقع بذكاء, لكنهم عندما يأتي الأمر لأدائهم الدراسي فهم يحصلون على درجات منخفضة.
هناك جدل هو الحل، وهناك دراسات تحاول اختبار الحلول، وهناك نقاش عن كيفية إحداث التوازن بين الاستفادة من التكنولوجيا وبين الحماية من مخاطرها، خاصة أنه يبدو من المستحيل الآن أن تمنع الطفل من استهلاك الإنترنت والموبايل وتطبيقات الآيفون والآيباد. مجموع هذه الدراسات تحول لنواة علم جديد ضمن تخصصات التربية معني بهذا الأمر، وهذا يعني في النهاية عددا من الكتب التي تعنى بتقديم النصح للآباء لكيفية التعامل مع التكنولوجيا في المنزل وفي حياة أطفالهم، وتعني وجود مدارس متعددة في هذا الاتجاه، ومسؤوليات تربوية جديدة يفرضها التطور التقني الجديد.
أحد أهم الأخطار في هذا الموضوع الذي تتحدث عنه الدراسات هو مشكلة ضعف التركيز على موضوع معين لفترة كافية، وهذا يعني في النهاية ضعف القدرة على الإنجاز في الحياة العملية، أو القدرة على الإنجاز الإبداعي. حسبما يقوله أستاذ في كلية الطب في جامعة هارفارد الأمريكية ورئيس مركز دراسات يركز على ''الإعلام وصحة الأطفال'' في بوسطن، فإن عقول الأطفال التي تنمو مع التكنولوجيا تتكون بشكل مختلف يجعلها غير قادرة على التركيز وذات نشاط عصبي متعود على الانتقال بسرعة من شيء إلى آخر بلا توقف، وهو أمر تغذيه التكنولوجيا تدريجيا حتى يتحول إلى إدمان مسيطر على عقل الإنسان.
طبعا مثل هذا القلق يبدو غريبا ومتناقضا مع جهود عالمية في كل الدول المتقدمة لوضع المزيد من التكنولوجيا في الصف الدراسي، ولذلك فإن الحلول المطروحة تحاول دائما إيجاد أساليب وطرق تسمح للطفل أو الناشئ أن يحافظ على توازنه العقلي والسلوكي دون أن يتخلى عن ثمرات التكنولوجيا وفوائدها اليومية. بعض الحلول تحاول التعامل مع كون شبكة الإنترنت تخلط بشكل ''عنكبوتي'' مواقع التعليم مع مواقع الترفيه، فيعيش الطفل بين الإثنين في وقت واحد، وإيجاد طرق لفصل مثل هذا التداخل سيمثل أحد الحلول المهمة.
إحدى النتائج المهمة لأثر التكنولوجيا النفسي هي أن التكنولوجيا تضخم الصفات النفسية، فمثلا الإنسان الاجتماعي يصبح اجتماعيا بشكل حاد من خلال مواقع الشبكات الاجتماعية والدردشة على الموبايل، والإنسان الذي يميل للعزلة يصبح أكثر انعزالا من خلال التركيز على ألعاب الفيديو، والأشخاص الذين لا يحبون النشاط ويحبون المتعة البصرية يزداد ذلك عندهم بشكل حاد من خلال موقع مثل موقع يوتيوب.
في الحقيقة؛ لم أهدف من مقالي إلى الحديث عن آثار التكنولوجيا، فقد تحدثت عنها سابقا، ويمكن الحديث عنها بشكل أكثر تركيز وتفصيل، لكنني أحببت أن ألفت نظر الباحثين وطلبة الدراسات العليا والجامعات إلى أهمية التركيز على هذا الموضوع والبحث فيه والتأليف حوله؛ لأننا بقدر ما نهمل هذا الموضوع، فهو جزء من معاناة الآباء اليومية التي يتعاملون معها بمختلف الطرق من دون إرشاد حقيقي للطريقة الأمثل التي تسمح لهم بتحقيق ثمرات كلا العالمين: عالم التكنولوجيا والعالم الحقيقي الذي نعيش فيه.
هذا في النهاية تحد صعب جدا، لكن لا يمكن أبدا الهرب من علاجه.