خريطة طريق لمكافحة الفساد
إن أولى خطوات الإصلاح هي الاعتراف بوجود المشكلة، وقرار إنشاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد هو الخطوة التنفيذية الأولى للقضاء عليه، والهيئة لديها مهام صعبة في قادم الأيام منها ما يحتاج إلى الحكمة في التدبير، وفيها ما يستدعي الخبرة في الإدارة، إضافة إلى ما يتطلب الحنكة في الدعم والمناصرة، والأهم اختيار الأمناء الأقوياء لتنفيذ مهام هذا الجهاز.
وفيما يلي بضعة من مقترحات قد تشكل خريطة طريق أولية لهذه الهيئة:
1. تحديد ممارسات الفساد التي ينبغي مكافحتها، أو بالأحرى تحرير مفهوم الفساد ومعنى المصطلح.
2. تحديد العلاقة بين الهيئة والجهات الرقابية الأخرى مثل ديوان المراقبة العامة و المباحث الإدارية وهيئة الرقابة والتحقيق وهيئة الادعاء العام... إلخ، وإعلان هذه العلاقة للجمهور، والتأكد من عدم تعارض الصلاحيات أو ازدواج الواجبات.
3. تحديد صلاحيات واضحة للهيئة، وتكون هذه الصلاحيات واضحة ومحددة وشاملة وذات سلطات عليا لتتناسب مع الدور الكبير المأمول من الهيئة، متماشيةً مع كلمة خادم الحرمين ''كائناً من كان''، بما في ذلك الحصانة والحماية للعاملين في الهيئة من امتداد الأيدي والألسنة الطويلة عليهم.
4. وضع الأنظمة والسياسات الداخلية للهيئة لحمايتها وحماية المجتمع من العاملين فيها، للتحقق من أن جهاز الرقابة جهاز منظم نقي من الشبهات وبعيد عن استغلال العاملين فيه لمناصبهم ونفوذهم.
5. وضع الآليات للتنسيق والضبط مع الأجهزة الحكومية وشبه الحكومية والقطاع الخاص، لتفعيل أعمال الهيئة.
6. وضع نظام واضح للتشهير والإعلان بحالات الفساد والمضبوطات التي تقوم بها الهيئة بغض النظر عن فاعلها ''كائناً من كان'' وهذا الإجراء ـــ في نظري ـــ سيكون له أثر مباشر في الوقاية من الفساد وتخفيف ممارساته.
7. تنظيم آليات التنفيذ والتي تشكل حالياً خللاً رئيسا في المنظومة العدلية في السعودية، وبدون التنفيذ لا قيمة لهيئتنا المبجلة.
8. إعداد العدة للبحث والتعيين عن الجهاز التنفيذي الذي سيأخذ على عاتقه تنفيذ مهام الهيئة، ويجب أن يتحقق فيهم المعرفة والخبرة والأمانة والثقة والسمعة الطيبة.
9. إعداد البرامج والخطط السنوية والدورية لتنفيذ الأعمال، والتي من الممكن أن تساعد فيها بيوت الخبرة في القطاع الخاص (والتي يجب أن تتميز بمستوى أفضل من المواصفات التي يتطلبها موظفو الهيئة)، خاصة في الفترة الأولى من أعمال الهيئة.
أقترح تبني مجموعة من المبادئ الأساسية في أعمال الهيئة، والتي من أهمها: تعزيز مبدأ الشفافية وترسيخه داخل مؤسسات الدولة المختلفة، لارتباط الفساد غالباً بكثير من البنود والتقارير الخاصة والمعلومات غير المعلنة. إضافة إلى تبني المرونة والتسهيل والوضوح في الإجراءات الحكومية والعدالة في تطبيقها، لوجود كثير من المنتفعين يتمترسون وراء الممارسات البيروقراطية البغيضة يضاف إلى ذلك التأكيد على تطبيق الأنظمة والقواعد والسياسات والإجراءات الحكومية التي تضبط الأعمال المالية والإدارية، بما يمنع حدوث الفساد وإن حدث فإنه لا يمكن إخفاؤه، وعند اكتشافه يستحيل التغافل عنه. ومن أبرز التطبيقات المقترحة في هذا الصدد إلكترونية المعاملات، بحيث نتجنب الفساد البشري قدر الإمكان، وتتطلب هذه التطبيقات أساليب متقدمة في الرقابة الإلكترونية. ومن المبادئ المهمة مراعاة ابتعاد الهيئة وتنظيماتها وموظفيها وأعمالها عن كل ما يمت للبيروقراطية بصلة، بحيث تتسم أعمالها بالمرونة والتحديث وتسهيل الإجراءات والسرعة والشفافية. ويجب على الهيئة أن تعمل على منح امتيازات لموظفيها، حتى يمكن للهيئة استقطاب الكفاءات الأفضل من ناحية، وللمساهمة في تحصين العاملين مالياً ضد أي مغريات غير أخلاقية من ناحية أخرى. ولا يخفى مدى فعالية مشاركة الجمهور ومؤسسات العمل المدني في مكافحة الفساد والإبلاغ عن حالات الفساد كتابياً وهاتفياً وإلكترونياً.. إلخ، ورصد المكافآت المجزية للمبلغين وإقرار السياسات التي تحميهم لاحقاً، مع وضع الأنظمة التي تحد من البلاغات الكيدية. كما أنه من المهم أن تعمل الهيئة على تحقيق إنجازات سريعة لها، تؤكد بدء أعمالها وتضيف الثقة من المجتمع لها، وتثير الرعب في المفسدين الذين تكافحهم.
إن واحداً من التحديات المشكلة التي ستقع فيها الهيئة هو تحديد مجال اختصاصها، ولنستعرض معاً بعض الأمثلة التي قد تشكل تقاطعات مثيرة للجدل في أعمال الهيئة:
ــــ هل مسؤولية الهيئة تنحصر في الجوانب المالية أم تتعداها إلى الجوانب الإدارية؟
ــــ هل تتابع الهيئة الفساد في منظومة الأراضي والمنح أم أن هذا من مسؤولية الجهات المانحة؟
ــــ هل ستتابع الهيئة حالات الفساد في الاستثمارات الحكومية داخل المملكة وخارجها أم ستترك مسؤوليتها لمؤسسة النقد وصندوق الاستثمارات العامة ووزارة المالية؟
ــــ هل من اختصاص الهيئة النظر في الرشى الصغيرة (لمراقبي الأسواق والمعقبين مثلاً)؟ بمعنى هل الهيئة مسؤولة عن ملاحقة القطط الصغيرة أم الذئاب الكبيرة؟
ــــ هل من مسؤولية الهيئة ملاحقة الرشى لمشرفي المشاريع الحكومية أم مشرفي الاستشاريين الذين يتسلمون المشاريع أم لكليهما؟
ــــ هل من اختصاصات الهيئة أن تلاحق تزوير الشهادات الدراسية أم أن اختصاصها فقط فيما ينتشر ويعلم أم لا هذا ولا ذاك؟
ــــ هل من اختصاص الهيئة أن توقف المشاريع الحكومية التي يكلف بها مقاولون معينون بدون مناقصات أم أن هناك استثناءات؟!
ــــ هل من اختصاص الهيئة النظر في ممارسات الفساد في شركات تملكها الدولة أم أن هذه مسؤولية مجالس إداراتها!
ــــ هل من اختصاص الهيئة التحقق من عدم وجود مجاملات حكومية ومعاملة تفضيلية لشركات معينة على حساب منافسيها أم لا خاصة في مجالات الخدمات العامة؟
ــــ هل من مسؤولية الهيئة أن تنظر في المحسوبيات والتعيينات الوظيفية والترقيات غير النظامية ؟
ــــ هل ستنظر الهيئة في الفساد بالبحث عنه أم ستكتفي بما يتم التبليغ عنه أو يفوح عفنه.
ــــ هل يعتبر الاستغلال غير المشروع للسلطة والنفوذ فساداً تكافحه الهيئة أم يجب أن يترتب عليه فعل له علاقة بالجهاز الحكومي نفسه؟
ــــ هل الهيئة مسؤولة عن ملاحقة أي فساد في صناديق الدعم (الصناعي ــــ الزراعي ــــ العقاري ـــــ التسليف ــــ الموارد البشرية... إلخ)؟
إن أول اختبار للهيئة هو إعلان نتائج التحقيق في القضايا السابقة التي أصبحت على كل لسان، وأبرزها قضية سيول جدة مثلا.
وبعد.. يكفي منهجاً ونبراساً للهيئة الوطنية لمكافحة الفساد أن تطبق ثلاثة أحاديث من قبس النبوة لسيد البشر ـــــ صلى الله عليه وسلم:
الأول: ''وايْمُ الله، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها''.
الثاني: ''ما بال عامل أبعثه فيقول هذا لكم وهذا أهدي لي، أفلا قعد في بيت أبيه أو في بيت أمه حتى ينتظر أيُهدى إليه أم لا؟''.
الثالث: ''الإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس''.