الأسرة والزواج .. ذهبت الأفراح وحضرت المظاهر والأشكال
استكمالا للمقدمة التي بدأنا بها الحديث عن الزواج والأسرة، وقبل الشروع في مناقشة المحاور الثلاثة: الفكرية والثقافية والنفسية لهذا الموضوع وما قد تتطلبه الحاجة من مناقشة لأمور فرعية في إطار هذه المحاور الرئيسة، أود هنا الوقوف عند ظاهرة عامة، هي: هل مناسبة الزواج باتت فعلا تتضمن معاني الفرح والبهجة، أم أنها صارت مناسبة اجتماعية استعراضية مملوءة بمظاهر نتوخى فيها التعبير عن شخصياتنا وعن الكثير من المكبوت في داخل نفوسنا؟ إننا صرنا نحمل هذه المناسبة أمورا وأشياء بعيدة كل البعد عن جلب الفرح والسرور لنا ولمن حولنا. وهنا قد يعترضنا سؤال، هو: كيف للإنسان أن يسعى بنفسه إلى تخريب فرحه وتفريغ هذه المناسبة من معاني الفرح والبهجة والسرور؟ وكيف نفهم أن الإنسان بمقدوره أن يتجاوز ويهمل ما يضيف إلى نفسه من قيمة لحساب أشكال قد تحط من قيمته لذاته وإن بدت أنها تعظيم لها؟ نعم، إن الله كرم الإنسان، ولقد كرمنا بني آدم، لكن هل كل إنسان يحفظ لنفسه هذه الكرامة؟ وإذا كان الله قد عرض هذه الأمانة، والعزة والكرامة، على جميع المخلوقات في السموات والأرضين ولم يقبلها إلا الإنسان لأنه مخلوق أعطيت له الحرية وجعلت له الإرادة في صلب خلقه وفي أساس تكوينه، لكن هذه الإرادة الحرة للإنسان مهددة أولا من الإنسان نفسه، فما أكثر ما يظلم الإنسان، وأكثر ما يؤدي بالإنسان إلى الظلم هو الجهل بكل أنواعه، فإن الجاهل فعلا عدو نفسه، وإن نفس الإنسان الجاهل هي أول ضحاياه، وهي أكثر من يعاني في هذا الوجود من ظلمه وجوره. في هذا الإطار فقط نستطيع أن نفهم كيف للإنسان في هذه الحياة أن يشتري علبا فارغة وهو يعرف أنها فارغة وليس فيها شيء يعود عليه بالنفع والفائدة، كيف له أن يدفع لكل هذه المظاهر والأشكال الزائفة في الزواج وهو يعلم علم اليقين أنها مجرد مظاهر، وأن هذه المظاهر ربما أكثرها جاء على حساب أشياء كثيرة هو يعلم أن لها الأولوية عليها.
والجهل الثقافي أكثر أنواع الجهل ضررا بالإنسان، وبالتالي، الظلم الذي يقع على الإنسان من نفسه ومن الآخرين بسبب جهله الثقافي أشد أنواع الظلم، لأن الثقافة هي التي تتكفل بصياغة وتشكيل رؤية الإنسان لنفسه وللحياة من حوله، وعندما تبنى هذه الرؤية بشكل خاطئ، وعندما تبنى على أوهام وليس على حقائق فإن الإنسان يدفع من حياته وسعادته وكرامته ثمنا لهذه الرؤية الخاطئة. الإنسان عندما تختل ثقافته وتبنى على أسس خاطئة تنعكس ثقافته المختلة على مشاعره وسلوكه وعلاقاته بنفسه وبالآخرين. المجتمعات المريضة ثقافيا كيانات ضعيفة وهزيلة، وهي أضعف من أن يكون لها تقدم علمي وفكري، فعجزها الثقافي يقعد بها ولا يجعلها قادرة على أن تبني لها حضارة بنفسها أو بالمشاركة مع غيرها.
هذه المظاهر والأشكال التي غلبت على مناسبات الزواج، التي لا تختص بها فئة دون غيرها، هي ظاهرة أنتجتها ثقافة فقيرة بمعانيها وواطئة بمثلها وقيمها وأخلاقها وسطحية في ممارستها للفكر وقشرية في تحليلها للأمور. فالمجتمع يعيش حياته بما تمليه عليه ثقافته، وإذا كان هناك اهتمام بالمظاهر والأشكال في مناسبات الزواج فمرد هذا الأمر هو الثقافة، لأن اللجوء إلى المظاهر أخف وطأة على الإنسان للتعبير عن نفسه. وفي النقاط الثلاث التالية شرح موجز لهذا المعنى:
1- الثقافة والتعبير عن الذات: إن الإنسان هو أعلى الكائنات الحية رتبة في التفاعل مع ذاته ومع البيئة التي تحيط به، وبالتالي فهو في حاجة أكثر من غيره من الكائنات الحية إلى أدوات وصور للتعبير عن هذا التفاعل، وكلما كانت هناك أدوات أكثر وصور متنوعة أكثر للتعبير عن نفسه كانت هناك فرصة أكبر لارتقاء الإنسان بحياته. فحاجة الإنسان إلى التعبير عن نفسه حاجة فطرية متأصلة في نفس الإنسان، لكن صورة هذا التعبير ونوع الأداة التي يستخدمها في التعبير هي التي تعكس ما ينطوي عليه الإنسان من قيمة في داخله. ولما كانت الثقافة من أهم الأوعية النفسية التي يستودع فيها الإنسان ما عنده من رؤية وقناعات وعندها فلا بد من أن يتأثر اختيارنا لأدوات التعبير عن أنفسنا بعمق هذه الثقافة وما تحويه من معان. الإنسان عندما يهتم بالمظاهر والأشكال فإنه في ذلك يعبر عن خواء في ثقافته، لأن الثقافة كلما كانت غنية وممتلئة بالرؤى والقناعات الراقية صار عند هذا الإنسان تنوع في الأدوات التي يعبر بها عن نفسه والعكس صحيح. فاعتماد الإنسان المظاهر المادية في التعبير عن نفسه يعكس فقرا معنويا في ثقافته. وعندما يكبر الجانب المعنوي في ثقافة الإنسان تتغير معه طبيعة الأدوات التي يعبر بها عن نفسه. فتفسير هذا الاهتمام الكبير بالمظاهر والأشكال في مناسبات الزواج بسبب محدودية امتلاكنا أدوات التعبير عن أنفسنا، وهو نتيجة لثقافة ضعيفة ومحدودة وفقيرة في الجانب المعنوي، وبذلك يطغى المظهر على المضمون، وربما لعدم وجود هذا المضمون في الأصل.
2- الثقافة والتمايز: يحب الإنسان، وهذا الشيء مكون فطري عنده بالتمايز عن غيره، فهو يريد أن تكون له شخصية متميزة عن غيره، وهذه الرغبة نجد لها حضورا قويا على شخصية الإنسان وسلوكه. لكن المشكلة هي بأي صورة يريد الإنسان أن يعبر عن هذا التمايز لشخصه، وهذا الأمر يرتبط أيضا بنوع وعمق الثقافة التي عنده. الإنسان الغني بالجوانب المعنوية في ثقافته ينتج من هذه الجوانب المعنوية أدوات للتعبير عن ذاته، فإذا كانت الأخلاق من حب للنظام وتقدير للحوار ورغبة في الانفتاح على الآخر وتعلق بالجوانب المعنوية في الحياة من حب للجمال وفهم عميق لضرورة التنوع والتعدد في كل مجالات الحياة هي الأكثر حضورا في الثقافة فإن هذا الإنسان أو ذلك المجتمع يهتم كثيرا بالجوانب المعنوية من غير أن يهمل الجانب المادي، والحال يكون على العكس عندما تكون هناك ثقافة فقيرة في هذا الجانب. هناك من ينظر إلى الكرم على أنه فرصة لإبهار الآخر بما يستطيع أن يقدمه من أمور مادية، وهناك من تكون نظرته إلى الجانب المعنوي في الكرم، الذي يتمثل في البحث عمن عنده حاجات حقيقية، ويرى الكرم على أنه خلق يحتم عليه ضرورة الإسراع في تلبيتها.
3- الثقافة والأولويات: لعل من أهم الوظائف التي تؤديها الثقافة للإنسان مساعدته على ترتيب أولوياته، فالإنسان بلا سلم للأولويات يعيش في فوضى وتخبط. فالإنسان أو المجتمع الذي ينشغل ويهتم بالمظاهر والأشكال في حياته على حساب حاجاته الحقيقية يعاني ــ بالتأكيد ـــ فوضى في ترتيب أولوياته، فكيف لإنسان أو مجتمع أن يهدر موارده لتحقيق أشياء هي ربما لا أهمية لها في حياته أو أنها في مرتبة متدنية في سلم الأولويات؟ فعندما يبيع الإنسان أرضا يمتلكها ليصرف ثمنها على شراء شكليات يتمظهر بها في مناسبة الزواج بالتأكيد عنده خلل في سلم أولوياته، وعندما يقترض الإنسان ويرهن مستقبله بدعوى أنه يريد أن يجعل من مناسبة زواجه مناسبة متميزة هو بالتأكيد يعاني ثقافة مريضة في أولوياتها. وعندما يصر إنسان على أن يدفع ما يعادل ثلاثة رواتب فقط لتزيين الصالة التي سيجلس فيها لساعات قليلة هو بالتأكيد يعاني غيابا في ثقافة الأولويات.
أخيرا، إن الفرح والبهجة شعور وإحساس داخلي، وقد نتوهم أن الاستغراق في المظاهر والأشكال قد يجلب لنا هذا الإحساس بالفرح، لكن هذه المظاهر تبقى مظاهر، وتبقى عاجزة عن أن تعطينا الإحساس الحقيقي والصادق بالفرح والسرور.