الجوانب الخفية لحركة التحول في منطقة الشرق الأوسط
ثمة الكثير من التحليلات التي تعالج ما حدث في العالم العربي من تحولات سياسية أدت إلى سقوط النظامين المصري والتونسي وما يواجه كلا من النظام اليمني والنظام السوري يستدعي الوقوف مطولا عند كل منهما. وعلى الرغم من أن أغلب التحليلات التي تدور تدخل في باب التكهنات والاستنتاجات إلا أن ذلك لا يمنع من أن بعض ما ينشر من تحليلات يحتمل أوجه تستحق الوقف عندها لتضع على بساط البحث للخروج باستنتاجات لما يحدث في عالمنا العربي اليوم.
فقد نشرت صحيفة ''نيويورك تايمز'' تحليلا مطولا عن حجم ملايين الدولارات التي ضختها حكومة الولايات المتحدة عبر وكالاتها وذارعتها المختلفة والتي تكاد تطول كل بقعة في العالم من داخل جهازها الرسمي وخارجه لتحريك مجموعات من المنظمات الممولة من قبل الحكومة الأمريكية التي تعمل تحت شعار الترويج للديمقراطية في الدول العربية.
وتشير الصحيفة بكل وضوح إلى الدور الذي لعبته الحملات الأمريكية في إثارة الاحتجاجات القائمة في بعض الدول العربية أكبر مما كان يعتقد سابقا، فيما درب قادة بارزون للتحركات من قبل الأمريكيين. وتقول الصحيفة إن هذه القيادات المهمة للتحركات دربها الأمريكيون على كيفية شن الحملات والتنظيم من خلال وسائل الإعلام الجديدة.
وكشفت نقلا عن برقيات دبلوماسية أمريكية سرية سربها موقع ''ويكيليكس''، وأشخاص أجرت الصحيفة مقابلات معهم، هوية عدد من المجموعات والأشخاص الضالعين مباشرة في الانتفاضات في المنطقة، من بينها ''حركة شباب 6 أبريل'' في مصر، ومركز حقوق الإنسان في البحرين، وناشطين مثل انتصار قاضي، الموصوفة بالزعيمة الشبابية في اليمن.
وقالت الصحيفة إن هؤلاء وغيرهم تلقوا تدريبا وتمويلا من مجموعات مثل ''المعهد الجمهوري الدولي''، و''المعهد الديمقراطي الوطني'' والمنظمة الحقوقية المتمركزة في واشنطن وخاصة ''بيت الحرية''.
وذكرت الصحيفة أن المعهدين الديمقراطي والجمهوري منبثقان عن الحزبين الديمقراطي والجمهوري في أمريكا، فيما تتلقى منظمة ''بيت الحرية'' الجزء الأكبر من تمويلاتها من الحكومة الأمريكية، وغالبا من وزارة الخارجية ومن جهات محافظة أيضا. وأشارت الصحيفة إلى أن بعض من وصفتهم بزعماء الشباب المصريين حضروا اجتماعاً حول التكنولوجيا في عام 2008 في نيويورك، حيث تعلموا كيفية استخدام شبكات التواصل الاجتماعي كـ ''الفيسبوك'' و''تويتر'' وتقنيات الهاتف النقال للترويج لتحركاتهم. وكانت مصادر رصد قد ذكرت في وقت سابق أن الإدارة الأمريكية موهت على وجود غالبية هؤلاء على ترابها. وكان موقع التواصل الاجتماعي ''فيسبوك''، ومحرك البحث ''جوجل'' وشبكة ''إم تي في'' ووزارة الخارجية الأمريكية من بين الراعين لهذا الاجتماع. وقال باسم فتحي، أحد المؤسسين لحركة الشباب في مصر، ''تعلمنا كيفية تنظيم وبناء التحالفات، هذا بالتأكيد ساعدنا خلال الثورة''.
مصادر موثوقة في العاصمة الأمريكية أكدت أن نائبة مدير المخابرات الأمريكية ستيفاني أوسوليفان التي أمضت 30 عاما في عالم المخابرات كانت أحد كبار المسؤولين عن شبكات التواصل الاجتماعية التي استخدمت من طرف إدارة أوباما.
وليس سرا أن حجم التدخل الأمريكي لم يكن وليد اليوم بل هو قديم فقد نشرت مثلا صحيفة ''أفتنبوستن'' النرويجية يوم الجمعة 28 كانون الثاني (يناير) برقيات حصل عليها موقع ويكيليكس أظهرت أن الولايات المتحدة دفعت عشرات ملايين الدولارات إلى منظمات غير حكومية في مصر تعارض النظام. وجاء في برقية مسربة صادرة عن السفارة الأمريكية في القاهرة بتاريخ السادس من كانون الأول (ديسمبر) 2007 أن الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (يو إس أيد) خصصت مبلغ 66 مليون دولار في عام 2008 و75 مليون دولار في عام 2009 لبرامج مصرية لنشر ما سمته الديمقراطية والحكم الجيد.
كما ذكرت الصحيفة التي حصلت على كل البرقيات الدبلوماسية الأمريكية التي سربها موقع ويكيليكس وعددها 250 ألف وثيقة، أن الولايات المتحدة أسهمت بشكل مباشر في ''بناء القوى التي تعارض الرئيس'' مبارك.
وتظهر المراسلات الدبلوماسية التي تم كشفها على مواقع مختلفة، كيف أن المسؤولين الأمريكيين خدعوا محدثيهم الذين علموا بجزء من أساليب التدخل الأمريكية تحت غطاء الترويج للديمقراطية بمفهومها الغربي، وكذبوا عليهم وقالوا للعديد من مسؤولي الحكومات العربية في المنطقة بأن التكوين والتدريب الذي تشجعه وتشرف عليه مؤسسات أمريكية هدفه الإصلاح وليس الدفع للثورات والفوضى، كما نفوا أن تكون واشنطن تدعم الحركات الانفصالية في الأقطار العربية رغم أن جل التنظيمات المكونة على أساس عرقي أو ديني والتي تسعى بشكل أو بآخر للترويج لفكرة الانفصال أو الحكم الفيدرالي الفضفاض توجد مقارها الرئيسة في الولايات المتحدة أو الدول التي تشارك البيت الأبيض في الترويج لنظرية الشرق الأوسط الجديد، كما تمول بأموال أمريكية أساسا. ولفتت صحيفة ''نيويورك تايمز'' إلى أنه على سبيل المثال، اشتكى المسؤولون في اليمن من أن الجهود الأمريكية ارتقت إلى حد ''التدخل في الشؤون الداخلية'' للبلاد، بينما أفادت مصادر ألمانية إلى أن حكومة صنعاء اشتكت من أن التحركات الأمريكية تسير في عكس التوجه المعلن للبيت الأبيض، حيث إنها تساند الحركة الانفصالية التي تسعى إلى إعادة تقسيم اليمن، وتدعم الحوثيين الذين تسلحهم وتمولهم إيران لتفتيت اليمن، وضرب استقرار السعودية، ومساندة الدعوات الاحتجاجية في الخليج.
مصادر في العاصمة الأمريكية ذكرت عبر برقيات على الشبكة العنكبوتية أن مقال صحيفة ''نيويورك تايمز'' خضع لعدة مراجعات من طرف أجهزة أمريكية قبل نشره، وأن خبراء في مجال التوجيه الإعلامي عملوا على إعطاء صيغة وردية للمقال ليخدم الدعاية الهادفة لتصوير الولايات المتحدة كمدافع عن الديمقراطية.
وتقول مصادر رصد ألمانية إنه تم حذف كل إشارة في الأخبار المنشورة عن دور المخابرات المركزية الأمريكية والوكالات الأمنية الأخرى في عملية التأطير للعديد من الأطراف التي لعبت دورا في الانتفاضات التي شهدتها المنطقة العربية.
وفي محاولة للتمويه على الدور الأمريكي الذي حول حركة تطور طبيعية للشعوب من أجل الإصلاح، إلى عملية تدمير وتشرذم في بعض المراحل، قال المدير التنفيذي ''لمشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط'' ستيفين ماكينيرنري ''لم نمولهم لبدء الاحتجاجات، لكننا قد نكون دعمنا تنمية مهاراتهم واستخدام شبكات الاتصال. هذا التدريب قد يكون لعب دورا في النهاية في ما حصل، لكنها كانت ثورتهم. لم نبدأها نحن''.
وذكرت صحيفة ''واشنطن بوست'' مولت سرا مجموعات من المعارضة السورية وقناة تلفزيونية تبث برامج تنتقد نظام الرئيس بشار الأسد. وأفادت الصحيفة نقلا عن برقيات دبلوماسية سربها موقع ويكيليكس أن ''قناة بردى'' التلفزيونية التي تتخذ مقرا لها في لندن وباشرت بث برامجها في نيسان (أبريل) 2009 كثفت تغطيتها لنقل وقائع موجة الاحتجاجات في سورية على أساس التصورات والتوجيهات الأمريكية.
وبحسب الصحيفة، فإن قناة ''بردى'' قريبة من حركة العدالة والبناء، وهي شبكة من المعارضين السوريين في المنفى. وأوردت الصحيفة أن وزارة الخارجية الأمريكية قدمت لهذه الحركة ستة ملايين دولار منذ 2006. وأضافت الصحيفة أن الإدارة الأمريكية باشرت تمويل معارضين في عهد الرئيس السابق جورج بوش حين سحب السفير الأمريكي من دمشق عام 2005، واستمر التمويل في عهد الرئيس باراك أوباما. وأكدت الصحيفة أن وزارة الخارجية الأمريكية رفضت التعليق على الأخبار التي نشرتها أو الرد على أسئلة بشأن تمويلها لتلفزيون ''بردى'' ما كشفت عنه صحيفتا ''نيويورك تايمز'' و''واشنطن بوست''، دفع محللين في عدة دول أوروبية وخاصة ألمانيا إلى تأكيد مصداقية ما قاله يوم الثلاثاء الأول من آذار (مارس) 2011 الرئيس اليمني علي عبد الله صالح خلال لقاء مع طلبة كلية الطب في جامعة صنعاء، عن أن عاصفة التغيير ذات التوجه الفوضوي في العالم العربي تديرها غرفتا عمليات في واشنطن وتل أبيب.
ويشير المراقبون من خارج أو داخل المنطقة العربية، إلى أن حركة الاحتجاجات في المنطقة العربية بدأت في الغالب بطرح مطالب للإصلاح السياسي والاقتصادي ومحاربة الفساد... إلخ، وكانت في مجملها سلمية ولكن عناصر سواء من صفوف المحتجين أو من طرف أجهزة الأمن، بدلت الطبيعة السلمية للاحتجاجات. وهكذا سقط الجرحى والقتلى وانطلق مسلسل الفعل ورد الفعل، وتحولت المطالب حول الإصلاحات إلى مطالب بإسقاط الأنظمة والحكومات وكل مكونات الدولة.
النتيجة التي تبلورت في مرحلة لاحقة كانت حالة من عدم الاستقرار، وتعطيل الاقتصاد، وخلق وضع من العجز كلف الاقتصاد في عدة دول مئات المليارات من الدولارات، كما جعلت من الصعب، إن لم يكن من المستحيل خلال أمد متوسط، تلبية أحد المسببات الأساسية للانتفاضة أي إيجاد شغل لمئات آلاف العاطلين. فقد كشفت عملية ركوب الولايات المتحدة لحركات الإصلاح العربية والتآمر عليها من الداخل، ولّد ويولّد عدة إسقاطات جزء كبير منها لا يخدم مشروع الفوضى الخلاقة الذي أنعشه المحافظون الجدد خلال حكم الرئيس الأمريكي بوش.
العديد من الحركات التي صنفت كمحركات للانتفاضات أخذت تفقد مؤيديها أو تفتت وعملت على عدم مواصلة تنفيذ المخطط الموضوع لها والهادف إلى نسف كل دعائم الدولة، في حين تخلت عنها الحركات الأخرى التي لم توجه إليها تهم التبعية للخارج. يوم الإثنين 18 نيسان (أبريل) علقت حركة السادس من أبريل المصرية، إحدى حركات الانتفاضة، عضويتها في ائتلاف الثورة، وتبادل قياديون فيها فصل بعضهم بعضا من الحركة، التي بدأت العمل لأول مرة في البلاد عام 2008، بما في ذلك إعلان عدد من أعضاء الحركة فصل منسقها العام، أحمد ماهر. وقالت مصادر الحركة إن الجدل تفجر بين قياداتها حول التمويل المالي من جهات خارجية والإطار التنظيمي للمرحلة الجديدة. التشقق الذي أصاب الأطراف التي حركتها واشنطن لركوب عملية التطور في المنطقة العربية أربك المخابرات المركزية الأمريكية التي تسعى لإيجاد بدائل. ومن بين الطرق المستخدمة تكثيف عمليات التضليل والكذب عبر وسائل إعلام معينة لتأليب المواطنين على القوى المخلصة التي حالت حتى الآن دون سقوط حركات التحول في قبضة الأجنبي أو التضحية بحياة مزيد من البشر.
لذلك وجب الحذر عند التعامل مع ما حدث في العالم العربي على أهميته إلا أنه ثمة أيدي خفية تحاول جاهدة تفكيك العالم العربي إلى دويلات ودول طوائف لتسهيل مهمة السيطرة عليها ضمن مشروع الشرق الأوسط الجديد، حيث تصبح هذه الدويلات عاجزة عن حماية نفسها مما يدخل العالم العربي من جديد في دوامة الاستعمار الجديد الذي تديره الوكالات المتعددة للحكومة الأمريكية في المنطقة وعبر تجنيد عملاء لها فيما يسمى منظمات المجتمع المدني وأذرعها المختلفة من منظمات حقوق إنسان وشباب ومنظمات نسائية وغيرها من المنظمات التي تنخر في بنية الدولة العربية عبر أهزوجة تعزيز الديمقراطية والحكم الرشيد. ليس من المعقول أن تبقى الدول العربية فاتحة أبوابها لهذا النوع من الاستعمار الجديد الذي يغلف نفسه بالحريات والديمقراطية، والهدف الأساسي إعادة استعمار المنطقة، ونهب ثروتها، وجعلها ضعيفة لا تستطيع مقاومة هذا المشروع الصهيو ـــ أمريكي!