أزمة الطاقة بين «أرامكو السعودية» وشركة الكهرباء

الزيارة التي تسنى لي أن أحظى بها لشركة أرامكو السعودية قبل نحو أسبوعين كشفت لي كثيرا من المعلومات حول أزمة الطاقة ونزيف النفط، وهو الموضوع ذاته الذي تناولته بالحديث في مقال نشرته في هذه الصحيفة قبل تلك الزيارة بعدة أشهر. تلك المعلومات فاقمت كمّ القلق والمخاوف التي عبرت عنها في ذلك المقال، بعد أن أوضحت الأرقام والإحصاءات كمّ المخاطر ومقدار الهدر في استهلاك النفط لإنتاج الطاقة، وهو ما لم تتناوله حتى الآن شركة الكهرباء بما يستحقه من اهتمام، كونها ما زالت حتى الآن تتبنى إنتاج الطاقة الكهربائية بوسائل تقليدية عفى عليها الزمن، وتتسبب في إهدار المصدر الرئيس لموارد الدولة المالية، في الوقت الذي تتبارى فيه الأمم الأخرى في تطوير مصادر الطاقة البديلة. بينما كنا نتنقل بين أرجاء الشركة وفق برنامج الزيارة الحافل، وردت إلى هاتفي الجوال رسالة قصيرة تحمل خبر منح الدولة شركة الكهرباء قرضا حسنا قيمته أكثر من 50 مليار ريال، وهو القرض الثاني خلال سنة واحدة بعد القرض السابق الذي بلغت قيمته 15 مليار ريال. وبعد كل هذه المليارات التي قدمتها الدولة للشركة في شكل قروض حسنة معفاة من الفوائد، حصلت الشركة في الأسبوع الماضي على قرض جديد بقيمة مليار دولار من أحد البنوك الفرنسية. خبر القرض الأخير أثار لدي كثيرا من علامات الاستفهام حول حاجة الشركة إلى هذا القرض الصغير نسبيا مقارنة بكل تلك المليارات عديمة التكلفة التي حصلت عليها الشركة من الدولة. فإذا كانت الشركة تستطيع الحصول على قروض من أسواق التمويل المحلية والعالمية فلماذا تستنزف موارد الدولة التي كان من الممكن توجيهها لدعم مشاريع التنمية الأخرى؟ وما خطة الشركة لتوظيف كل تلك المليارات في معالجة جذور المشكلة المتعلقة بنمط إنتاج الطاقة الكهربائية ونزيف النفط الذي يمثل مورد الدولة الرئيس؟
قبل أن أسترسل في الحديث، أجد لزاما علي أن أسوق للقارئ الكريم خلاصة تلك المعلومات والأرقام والإحصاءات التي حصلت عليها أثناء زيارة شركة أرامكو السعودية حول هذا الموضوع. فالشركة تقول إن الاحتياطي المسجل من النفط يبلغ نحو 260 مليار برميل، وإن كثافة الطاقة في المملكة تبلغ 480 وحدة مقابل 220 وحدة في الولايات المتحدة - على سبيل المثال. وكثافة الطاقة تعرف بأنها معدل استهلاك وحدة واحدة من الطاقة لكل وحدة من الناتج القومي، ويتم احتسابها بقسمة كمية الطاقة المستهلكة محليا على الناتج الإجمالي المحلي للدولة. هذه المقارنة تعني أن معدل استهلاك الطاقة في المملكة يبلغ أكثر من ضعف مثيله في الولايات المتحدة مقارنة بالناتج القومي لكل منهما، وهو ما يمثل مؤشرا خطيرا حول تفاقم معدلات استهلاك الطاقة محليا. شركة أرامكو تقول أيضا إن الزيادة في معدل استهلاك الطاقة ستصل إلى نحو 170 في المائة خلال 20 عاما، وهو ما يتطلب إنفاق أكثر من 1.2 تريليون ريال لإنتاج الطاقة الكهربائية بالوسائل الحالية ذاتها، بخلاف النفقات المطلوبة للبنية التحتية ومد الشبكات والأعمال الأخرى ذات العلاقة. هذه الزيادة المطردة في استهلاك الطاقة مع كل ما توقعه من زيادة في الهدر تمثل واقعا يعاكس التوجه العالمي الذي يؤكد تناقص معدلات استهلاك الطاقة في الدول المتقدمة، حيث إن كثافة الطاقة في دول أوروبا - على سبيل المثال - تتناقص بمقدار 7 في المائة سنويا. تقول الشركة أيضا إن مقدار الفاقد في استهلاك النفط حاليا يبلغ نحو 500 ألف برميل تبلغ قيمتها نحو 50 مليار ريال سنويا، وتتوقع الشركة أن يزيد هذا الفاقد مع استمرار نمط الاستهلاك الحالي ليصل إلى أكثر من 250 مليار ريال في عام 2030. إن هذه الأرقام والمعلومات تثير الرعب وتدق ناقوس الخطر حول مشكلة خطيرة تحدق بمستقبل اقتصادنا الوطني ومقدرات الأجيال القادمة. وكل هذا الهدر والفاقد في استهلاك الطاقة والنفط هو في حقيقته يأتي على حساب الاستثمار في تطوير البنية التحتية والاجتماعية والبشرية، ويمثل هدرا لمواد ومنتجات يفترض فيها أن تكون معدة للتصدير لا للاستهلاك الجائر. والحديث عن الاستهلاك الجائر يعيد إلى الذاكرة مخاطر واقع استهلاك البنزين الذي يعد الأرخص على مستوى العالم، ويعود بخسائر هائلة على موارد الشركة والدولة، خاصة إذا علمنا أن نحو 35 في المائة من البنزين المستهلك محليا يتم استيراده من خارج المملكة، في ظل قصور إمكانات المصافي المحلية عن مواجهة الطلب المحلي المتنامي على البنزين الرخيص.
في المقابل، فإنه يبدو أن أيا من مؤسسات الدولة لا تعي حقيقة المخاطر التي تؤشر لها هذه الأرقام والمعلومات الخطيرة، فكل الأمور ما زالت تجري وفق ذات النمط المعتاد من إهدار الموارد والطاقات، وما من جهد موجه ومركز لتطوير بدائل اقتصادية وفاعلة لإنتاج الطاقة، ولا لترشيد الاستهلاك، الذي نشهد أوجه الهدر فيه في كل مناحي حياتنا. ونحن ما زلنا حتى الآن نرى أعمدة الإنارة في الطرق مضاءة في وضح النهار، بما فيها طريق الملك عبد الله حديث الافتتاح، الذي كان من المتوقع أن يوظف أفضل التقنيات لترشيد استهلاك الطاقة الكهربائية، وما زلنا نرى المباني الحكومية تشع بإضاءتها ليلا في الوقت الذي أغلقت فيه أبوابها وأوى موظفوها إلى منازلهم، بما فيها جامعة الأميرة نورة بنت عبد الرحمن التي تضاء أنوار مبانيها وطرقها ليلا وهي لما تبدأ تشغيلها الفعلي بعد. ووزارة الإسكان التي تم تكليفها بمهمة بناء 500 ألف وحدة سكنية لم تعلن حتى الآن عن تبنيها أي مناهج لتوظيف تقنيات تسهم في ترشيد استهلاك الطاقة، ناهيك عن استهلاك مواد البناء في ظل الآليات التقليدية التي ما زالت الوزارة تعتمدها في منهجها الذي يدور حوله كثير من التساؤلات. الأهم من ذلك أن شركة الكهرباء، المسؤول الأول عن إنتاج الطاقة الكهربائية، ما زالت تتبنى إنتاج الطاقة الكهربائية بالوسائل القديمة ذاتها التي توجه إليها أصابع الاتهام في هدر النفط، وما زالت تستخدم المولدات ذاتها التي تعمل بأقل من نصف طاقتها الإنتاجية. أخشى ما أخشاه أن توجه كل تلك المليارات التي حصلت عليها الشركة من الدولة ومصادر التمويل الأخرى لبناء وحدات إنتاجية تستخدم الآليات العقيمة ذاتها في إنتاج الطاقة، وهو ما يؤشر إليه غياب جهود البحث والتطوير لمجالات الطاقة البديلة التي غضت الشركة عنها بصرها مؤثرة، استمرار نهجها الحالي، وهو ما تدل عليه تصريحات المسؤولين في الشركة ووزارة المياه والكهرباء.
خلاصة القول، قضية إنتاج الطاقة ونزف النفط قضية خطيرة تحمل في طياتها كثيرا من المشكلات والمخاطر التي تحدق بمستقبل بلادنا، وهي تتطلب من الجميع أولا الاعتراف بهذا الوضع المخل، ووضع الأصبع على مواطن الخلل، والعمل على وضع حلول عاجلة لمعالجة هذه القضية معالجة جذرية ممنهجة. وأول ما يجب فعله هو تنظيم مؤتمر وطني حول هذه القضية المصيرية، يجلس فيه المسؤولون في الجهات ذات العلاقة جنبا إلى جنب، ويضموا أيديهم وعقولهم بنية مخلصة للخروج بالحلول التي تتطلبها هذه المعالجة. أما استمرار النهج الحالي من إلقاء التهم وتبادل المسؤوليات فإنه لن يعود على مقدرات الأمة ومسيرة التنمية سوى بمزيد من الهدر وتعميق المخاطر.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي