رأيت الجنة ورأيت النار (1 من 2)
أتمنى من القارئ العزيز أن يمهلني قليلا، فاختياري هذا العنوان ليس من باب التشويق أو الترغيب لما أريد الكتابة عنه، بقدر ما هو من وجهة نظري، إشارة إلى موضوع هذا المقال الذي هو تعبير نفسي عما رأيته من أماكن على هذه الأرض هي عندي وكأنها صور من صور الجنة وصور من صور النار، وما أكثر أمثالها من أماكن ومناظر على سطح هذا الكوكب. فالإنسان هذا المخلوق العجيب والعظيم، الذي جعله الله خليفة له على هذه الأرض، عنده رغبة مزروعة في فطرته وهي رغبة التعرف على الله - سبحانه وتعالى. الله الخالق والمصور والمبدع لهذا الوجود الجميل الرائع، حتى عبادتنا من صوم وصلاة وغيرها تحرك في نفوسنا الرغبة في التقرب من الله، وتعمق رغبتنا في الانشغال بالأذكار والأعمال العبادية التي تؤهلنا للحصول على رضاه، ورضاه هو المقدمة المطلوبة لمعرفتنا له - سبحانه وتعالى - على قدر ما يسمح به وجودنا الروحي والنفسي. فنحن نعلم، إن كان بوعي أو بلا وعي، إن قربنا من الله يعني مزيدا من الإشراق الإلهي في نفوسنا، فالإنسان المؤمن بصدق يزداد بقربه من الله رحمة بالآخرين، وكأن هذه الرحمة الإلهية التي لا ينقطع مددها قد سرت إليه بفضل هذا القرب، فصار إنسانا رحيما وصار أكثر يقينا ومعرفة بأن الله هو إله الرحمة، وهو الرحمة المطلقة التي تحيط بهذا الوجود، وهذا هو جزء من معرفة الإنسان بربه. والإنسان عندما يصبر على البلاء يقربه هذا الصبر من الله سبحانه وتعالى - ويحس هذا الإنسان الذي شعر بالراحة والطمأنينة بأن الله قريب من عباده وأنه ألطف بهم من أنفسهم، ''إن الله مع الصابرين''، الآية رقم 153، سورة البقرة، وهذا الإحساس هو الآخر خطوة متقدمة في طريق معرفة الله.
نحن نعلم ماذا يعني التوحيد في حياتنا وفي وجودنا، فالله الواحد الأوحد في كل الصفات الحسنى، فالله العالم بكل شيء والمحيط بكل شيء والخالق لكل شيء والباقي بعد فناء كل شيء، فإن مقدار تقربنا من الله - سبحانه وتعالى - نحس به كلما استطعنا أن نجسد في أنفسنا ما نستطيع تجسيده من معاني هذه الأسماء الحسنى، وبذلك نرتقي في مراتب معرفتنا بالله - سبحانه وتعالى. ويعني ذلك مزيدا من الهداية والترشيد لخلافة الله على هذه الأرض. فكل اسم من الأسماء الحسنى له مظهر وله تجلٍ في هذا الوجود، وهذه من النعم الكبرى لله على الإنسان. فعندما يمد الإنسان بصره إلى هذا الكون فإن كل ما يراه ينطق بعظمة الله وقدرته وحكمته وعدله، فهذا الكون الإلهي يحوي من الأجسام الكبيرة ما تعجز الأرقام عن حساب حجومها وكتلها، فهناك نجوم في الكون أكبر من شمسنا بآلاف الملايين من المرات، وعلينا أن نتصور كم من الضوء والحرارة التي تصدر من مثل هذه النجوم العملاقة، وفي المقابل هناك أجسام بل جسيمات في غاية الصغر حتى أنه لا يمكننا رؤيتها بالعين أو بغير العين، ولكن لا يمكن إنكار وجودها لعظم آثارها وتأثيرها في هذا الكون. أما عن المسافات، فالعلماء في حيرة من أمرهم، فهناك أجسام في هذا الكون متباعدة جدا حتى أن المسافة بينها تصل إلى الملايين والمليارات من السنين الضوئية، والسنة الضوئية الواحدة تقدر مسافتها بتسعة تريليونات ونصف تريليون كيلومتر، وفي المقابل هناك أجسام في الكون قريبة جدا من بعضها، ولكن تبقى هناك مسافة محسوبة بينها، فالثقوب السوداء هي نجوم كانت ربما أكبر من النجوم العملاقة، سوبر ستار، قد تقلصت المسافات بين جزيئاتها حتى اندكت على بعضها وصارت قريبة إلى الحد الذي لو أخذت منها ملعقة صغيرة من ترابها لوجدتها أثقل من ألف مليون طن. أما لو أردنا أن نفكر في مقدار ما في هذا الكون من طاقة ومن دون أن نذهب بعيدا في أعماق الكون، فما يأتينا من الشمس من طاقة في ساعة واحدة وربما في أقل من ذلك بكثير، فإن هذه الطاقة تكفينا لتشغيل كل ما على هذه الأرض من أجهزة وأدوات لمدة سنة كاملة، هذا عن الشمس، ولكن ماذا عن الطاقة المختزنة في الرياح التي بدأت دول العالم في نصب مصائد للرياح لاقتناص الطاقة منها، وهناك طاقة أمواج البحار والطاقة المختزنة في باطن الأرض، ويتطلع العلماء الآن لاستخراج الطاقة الكامنة في دواخلنا، في الإنسان، فما يحويه الإنسان من طاقة في داخله تفوق كل مصادر الطاقة الموجودة في الخارج ولا غرابة في ذلك، فالإنسان فيه نفحة إلهية تربطه بالله - سبحانه وتعالى وهو مصدر طاقة هذا الوجود كله.
فمظاهر علم الله وقدرته موجودة في كل شيء من حولنا، وعلى الإنسان أن يسعى للتقرب من هذه المظاهر الربانية وأن يجتهد ليزداد معرفة بها وإحساسا بها وعندها يكتشف الإنسان المعنى الحقيقي للتوحيد، من خلال شعوره بأن الله وحده هو الحاضر في داخل نفسه، وهو وحده المحيط بهذا الوجود كله. فبفضل العلماء تعرفنا على كثير من أسرار هذا الكون، فمنها ما يبحر في عوالم الإنسان وطبقات وجوده المادي والمعنوي، فكشف لنا كم وكم من العظمة والآيات الباهرة الموجودة في خلقنا، ويكفينا أن نعرف عظمة أنفسنا عندما نستمع إلى قول الله - سبحانه وتعالى - وهو يطلع الملائكة والوجود كله على عظمة خلق الإنسان، ''فتبارك الله أحسن الخالقين''، الآية رقم 14، سورة المؤمنون، ويكفي الإنسان أن يعرف عظمة وجوده وخلقه عندما يعلم ماذا يعني أن الله أمر الملائكة بأن يسجدوا له، ''وإذا قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا''، الآية رقم 61، سورة الإسراء. وبفضل العلماء تعرف الإنسان على القليل وبقي الكثير من أسرار مخه وتركيبه وعمله، ولا يزال العلماء يقرون بأنفسهم بأن المخ هو عوالم متعددة وكل عالم منه فيه قارات عديدة، وأمام العلماء الكثير للتعرف على مجاهيل هذا العضو الإنساني الرفيع البالغ التعقيد، ''وما أوتيتم من العلم إلا قليلا''، الآية رقم 85، سورة الإسراء. وبفضل ما صنعه العلماء من أدوات وأجهزة استطعنا أن نشاهد صور ومناظر ومشاهد لموجودات وكواكب ونجوم غنية بالمعلومات والتفاصيل عن عظمتها ودقة تركيبها وتنظيمها. كل هذا يجعلنا ننظر إلى هؤلاء العلماء على أنهم آيات وشواهد على عظمته، وأنهم مظهر من مظاهر علم الله. فلولا هؤلاء العلماء الذين ليس عندهم إلا القليل من العلم لما عرفنا عظمة علم الله، ولما أدركنا ولو بشكل محدود ماذا يعني أن الله يصف نفسه بالعليم القدير. فهذه نعمة إلهية كبيرة أن أتاح الله للإنسان أن يتعلم وأن يرتقي في العلم لنعرف ونتعرف على اسم من أسمائه الحسنى. فعلم العلماء هو مظهر لعلم الله، والعلماء أنفسهم هم أيضا آيات في هذه الدنيا تقربنا من استيعاب مفهوم العلم الإلهي.
وحتى الأخلاق الربانية لها شواهد ومظاهر في هذا الوجود، فنبينا محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - قد تمظهر في شخصيته الكريمة أعلى مراتب هذه الأخلاق الربانية، فالله - سبحانه وتعالى - قد وصفه بأنه على خلق عظيم، ''وإنك لعلى خلق عظيم''، الآية رقم 4، سورة القلم، فالنبي محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - هو أنقى صورة إنسانية للرحمة الإلهية، ''وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين، الآية رقم 107، سورة الأنبياء، والنبي الكريم هو النموذج الإنساني الأكمل في كل الصفات الأخلاقية الحسنة. فوجود النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - هو رحمة ونعمة للبشرية لأنها جسدت هذه الأخلاق وقربت لنا معنى هذه الأخلاق الربانية. فشخصية النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - هي أية من آيات الله، وهي مظهر للأخلاق الربانية، التي لولا شخصية النبي لافتقدنا الإحساس بجزء كبير من تفهم حقيقة هذه الأخلاق الربانية. وإذا كان النبي قد تمظهر فيه أعلى مراتب هذه الأخلاق، فهناك كثير من الصالحين ممن تمظهر فيهم وعلى قدر ما تتحمل نفوسهم كثير من هذه الأخلاق الربانية. فبالنهاية هناك تمظهر وشواهد على الأخلاق الربانية وهي بمقدار ما تعين الإنسان على معرفة الله، فإن الأشخاص الذين يتسمون بها هم نماذج إنسانية للاقتداء بها والسير على خطاها، ''لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة''، الآية رقم 21، سورة الأحزاب.
ولكن ماذا عن الجنة والنار وهما يشكلان المحورين المهمين في علاقة الإنسان مع الله، فالجنة هي بمقدار ما تمثل العنوان للحصول على رضى الله - سبحانه وتعالى - فهي أيضا مظهر لجمال الله، وهي مظهر لروعة ودقة وكمال قدرة الله في خلقه وصنيعه، وأما النار فهي الأخرى تمثل مظهرا لقدرة الله وعدله، وهي أيضا النهاية الطبيعية للإنسان الذي ظلم نفسه وعصى ربه. فبالتأكيد هناك رغبة إنسانية لرؤية ما يقرب لنا من صورة الجنة والنار في أذهاننا، فهناك مناطق طبيعية جميلة جدا على سطح الأرض وتتداخل في هذه المناطق الجبال والأنهار والغابات بتناسق بديع فيما بينها، مما يجعل منها بيئة طبيعية تجذب لها الطيور والأنواع المتعددة من الكائنات الحية، مما يضفي عليها جمالا فوق جمالها، وعند رؤية الإنسان هذا الجمال وهذا التناسق وهذه الألفة بين الجبال والأنهار وبين الأشجار والطيور، وعندما يسمع الإنسان كيف تتداخل الأصوات لتشكل مع بعضها لوحة غنائية طبيعية تطهر السمع مما علق به من الأصوات القبيحة، فإن كل ما تجمعه حواس الإنسان المباشرة وغير المباشرة من أحساس وشعور، يصب كله على شكل صور تقرب لنفس الإنسان المعاني الكلية للجنة التي سينالها المؤمن جزاء لعمله الصالح، فهذه المناطق الجميلة هي مظاهر وصور نسبية للجنة الموعودة. وفي المقابل هناك مناطق تقرب لنا بشكل نسبي صورة النار في أذهاننا.
فما نريد قوله في هذا المقال هو أن رحمة الله اقتضت أن تحوي هذه الأرض التي هي مكان خلافة الإنسان لربه، مناطق بديعة تتمظهر فيها الجنة التي وعد بها الإنسان بجمالها وروعة تنسيقها، وأن تحوي هذه الأرض أيضا مناطق تتمظهر فيها النار والجحيم الذي أنذر بها الإنسان ردعا له عن المعصية وتذكيرا له بحجم العقاب والعذاب الذي ينتظره جزاء لمعصيته. فالإنسان القادر عليه أن يسعى وأن يجتهد لزيارة مثل هذه الأماكن ليستوعب بعضا من هذه المعاني التي تحيط بفكرة وطبيعة الجنة والنار، وللحديث تتمة...