آراء وتصوّرات حول شرق أوسط مختلف
كثر الحديث عن الشرق الأوسط الجديد، وفي معظمه هناك الطعم المطلوب منا ابتلاعه لنستخدم المصطلح كما تريد أمريكا صنعه خدمة لإسرائيل، مع إغراء لها بإبداء بعض المرونة مع الفلسطينيين في الحل النهائي مقابل الجائزة الكبرى، وهي منطقة باتساع العالم العربي تعزف فيها إسرائيل ما تشاء من ألحان وتنفذ فيها ما تريد من سياسات، بعد إبعاد وإخفاء كل ما يمكن أن يتهددها من حكام أو نظم أو استراتيجيات.
وهناك توجه أمريكي بأن تصبح سورية ومصر دولتين معتدلتين تحت مظلة إسلامية سنية تتزعمها تركيا خاصة بعد نجاح النموذج التركي بعد انتخابات 12 (يونيو) الماضي، وكما لخصها محلل أمريكي فإن تركيا ستصبح المستفيد الأول إذا سارت الأمور في مصر وسورية حسب السيناريو المطروح.
فإذا قدر للحركات الإسلامية في مصر وسورية النجاح في تولي السلطة، فإن كتلة سنية قوية سوف تبرز تحت رعاية تركيا التي تتطلع عبر المضايق للأوروبيين بأحلام السيطرة على أوروبا وليس بمجرد الرغبة في أن تكون دولة عضوا في المنظومة الأوروبية أو الاتحاد الأوروبي.
وهنا سنقف قليلاً أمام تصريح رجب طيب أردوغان بعد نجاحه الساحق في الانتخابات الأخيرة، وهو التصريح الذي وصفه المحللون بأنه يحمل طابعاً عثمانياً إمبراطورياً .. قال أردوغان: ''صدوقني إن سارايفيو (عاصمة البوسنة) ربحت اليوم مثلما ربحت إسطنبول، وكذلك ربحت بيروت مثلما نجحت أزمير، وربحت دمشق ربح أنقرة، وكذلك رام الله ونابلس وجنين والضفة الغربية التي ربحت جميعها مثل دياربكر (عاصمة القطاع الكردي في تركيا)''.
أنعش هذا التصريح فكرة بروز الكتلة السنية تحت القيادة التركية، مثلما كان العثمانيون يهيمنون على البحر الأبيض وشمال إفريقيا، وهذا الحلم يراود الكثيرين، فهو يداعب خيال التيار الإسلامي بأكمله ويغازل دعاة إشعال حرب سنية وشيعية في منطقة الشرق الأوسط لتوفير الجهد الإسرائيلي، لأن أطراف الحرب سيكونون تركيا وإيران وبعض الدول العربية التي ستعتبر الحرب المذهبية أولوية قصوى. هذه الكتلة السنية ستحاول استيعاب السنة في سورية وهم الأغلبية والسنة في لبنان لمواجهة التغلغل الإيراني مع العلويين في سورية والشيعة في لبنان.
وحتى فترة وجيزة ظنت إيران أنها الفائز الأكبر من وراء ''الربيع العربي''، واعتبر زعماؤها أن القلاقل في تونس ومصر كانت حركات معادية للولايات المتحدة وتلعب لصالح إيران وتنبأت صحيفة ''كيهان'' أن سقوط مبارك سيكون ضربة للوضع الإقليمي الأمريكي في الشرق الأوسط ومن ثم فإن وضع إيران سيقوى، ولكن واشنطن ردت بأنها وقفت بكل ثقلها وراء كافة الثورات من تونس ومصر إلى سورية وليبيا واليمن وبلغ الأمر بالرئيس الإيراني أحمدي نجاد أن يقول ''ها هو شرق أوسط جديد بلا أمريكا وبلا إسرائيل''.
وتعالت بعض الأصوات التي تعلن أن تحسن وضع تركيا قد يكون على حساب إيران، وقد نشرت صحيفة ''دنيا الاقتصاد'' الإيرانية مقالا قالت فيه إن العلاقات التاريخية والوثيقة بين البلدين لم تكن دائماً علاقات صداقة ولكنها كانت تتسم دائما بالتنافس والارتطام أحياناً، بل إن اعتناق الدولتين للإسلام لم يخفف من ضراوة تنافسهما.
وثمة أحداث وقعت بين الدولتين تشي باحتمال سوء العلاقات، فقد قامت تركيا بمصادرة شحنات كانت تنقلها طائرات إيرانية في المجال الجوي التركي إلى جانب مطالبة تركيا إيران بعدم التدخل في البحرين - مما دفع ببعض الساسة الإيرانيين إلى الشعور بالقلق.
وعندما بدأت القلاقل في مصر وعد الإخوان المسلمون بعدم ترشيح مرشح للرئاسة والاكتفاء بترشيح 30 في المائة من المقاعد البرلمانية، ولكن بعد انتصارهم في استفتاء (مارس) على الدستور، قرر الإخوان تشكيل حزب الحرية والعدالة ليرشح 50 في المائة من مقاعد البرلمان بالتحالف مع حزب الوفد الليبرالي، مع التقدم بمرشح للرئاسة مع الإعلان بأنه ''مستقل''.
ويرى المراقبون أن هذه التصرفات من جانب الإخوان تعكس التأثير التركي حتى في مسمى الحزب الإخواني ''الحرية والعدالة''. ولكن آخرين يرون أن الإخوان إذا ما حققوا فوزاً كبيراً في انتخابات (سبتمبر) - وهو احتمال قائم - فإن ذلك سيشجعهم على إحياء السيطرة المصرية على المنطقة لتصبح مصر زعيمة السنة في العالم العربي الإسلامي، ومن ثم لن تقبل الوصايا التركية أو الرؤية العثمانية الجديدة التي يراها حزب أردوغان.
وعلى نفس المستوى من التأثير فإن نتيجة ما يحدث في سورية ستكون له تأثيرات بالغة على كل من تركيا وإيران، ولذلك فالطرفان يراقبان باهتمام كبير، فسورية مع تركيا لها علاقات بالغة الأهمية والتعقيد لأن هناك جالية كردية هنا وهناك - وكذلك الحال بالنسبة لإيران، لكن الملف الشيعي - السني قد يكون له تأثيرات أخطر.
كان أردوغان يخطط للتباحث مع بشار الأسد حول ما يجري في مصر، ولكن سرعان ما انقلب الحال في سورية وأصبح اهتمام أردوغان هو مراقبة الأحداث الدموية في سورية نفسها. وتركيا أكبر طرف لا يود رؤية حرب أهلية في سورية، لأن ذلك يمس أمن تركيا ذاتها، بل إن السياسة التركية - من فرط أهمية سورية لتركيا - تعتبر الملف السوري ملفا محليا، وترى أنقرة أن الحل المثالي هو التحول السوري الديمقراطي تحت قيادة بشار الأسد. ولذلك توجهت تركيا باللوم لماهر الأسد شقيق الرئيس السوري الذي تتهمه أنقرة بأنه وراء العنف.
ويصعب على المرء فهم مآرب تركيا، فهي تهيئ للمعارضة السورية الساحة للاجتماع في أنطاليا دون مشاركة أكراد سورية، وفتحت المنابر لمتحدثي الإخوان المسلمين، والغريب أن وزير خارجية تركيا دافوتوجلو قال إن بلاده تحافظ على علاقات طيبة مع الحكومة السورية وتحب الشعب السوري.
ولكن القلق التركي ينبع من الخوف بأن انتشار القلاقل في شمال سورية الغربي سيفتح جبهة للأكراد المعارضين، والمعروف أن أردوغان لم يحظ بالكثير من أصوات الأكراد، وإن كان قد أعلن أن على رأس أولوياته منح الأكراد المزيد من الحريات. أما سورية فتعلن أن الغرب يريد إعادة الدولة العثمانية وجعل تركيا الزعيم والنموذج الذي يقود العرب.
ويلاعب الأسد جيرانه الأتراك في مزاح ثقيل، فهو يدعو كل الأحزاب الكردية وعلى رأسها حزب العمال الكردستاني لسورية، والسبب رغبة الأكراد في إنشاء وطن كردي مستقل، وهذا رعب حكومة أنقرة.
وإذا ما انفرط عقد التحالف الإقليمي فإن أي نظام قد يخلف الأسد سوف يطالب بعودة الإسكندرونة التي وهبتها فرنسا لتركيا سنة 1939، وهي قضية أجلها الأسد طويلاً.
والملاحظ أن الرافضين للأسد قد أحرقوا أعلام إيران وحزب الله وهو أمر له مدلوله.
أما في لبنان فإن قرار المحكمة الدولية بإدانة زعماء حزب الله باغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري قد يغير الموقف في لبنان ويضعف حزب الله ويثير المشاكل بين الشيعة والسنة.
وفي فلسطين اقترب موعد صدور قرار الاعتراف بالدولة الفلسطينية في حدود 1967، وهو ما يزيد الضغوط على إسرائيل خاصة بعد انضمام مصر وسورية إلى الفلسطينيين، ولذلك تتعالى أصوات إسرائيل واللوبي المؤيد لها بالقول إن ذلك إن حدث فسوف يوقظ الفتنة في دول كثيرة لديها مشاكل مماثلة مثل الأكراد في تركيا وسورية وإيران والعراق والبلوش في إيران وباكستان وشعوب القوقاز والتبت والإيجور في الصين وكشمير في الهند، وكلها شعوب حاربت لعقود طويلة من أجل الاستغلال أو الحكم الذاتي على الأقل. والذي يهمنا بصفة أساسية هم الأكراد في تركيا وسورية والعراق والمشكلة متفاقمة في تركيا التي عجزت حتى الآن عن حل مشكلتها الكردية، ولم يحصل حزب أردوغان على أصوات كثيرة من المناطق الكردية. وقد هدد عبد الله أوجلان المسجون في تركيا بأنه إذا لم تحل المشكلة الكردية فإن الحرب الأهلية ستندلع في تركيا.
ويصرخ أكراد العراق مطالبين الأمريكيين بعدم الانسحاب وإلا فإن العراق ستدخل أتون حرب أهلية بين العرب والأكراد. والحرب المستعرة دون تغطية إعلامية كافية هي حرب البلوش للحصول على حقوقهم السياسية من إيران وباكستان.
وتتعالى الآن صيحات الحرب بين البلوش للحصول على قائمة طويلة من الحقوق مصحوبة بالحرية، وإذا بدأت حروب أهلية لصالح البلوش فإن آسيا ستشتعل ويصل لهيب الحرب إلى الصين والهند.
وقد لاحظت أن وسائل الإعلام الصهيونية تبالغ في الآثار الساخنة لاعتراف الأمم المتحدة بفلسطين، مع استخدام سلاح التخويف لتخويف دول العالم من التصويت لصالح فلسطين.
إن ما حدث في تونس ومصر واليمن وليبيا وسورية والبحرين اصطلح الغرب المنافق على تسميته الربيع العربي، وإذا بهم الآن يقولون إن الربيع العربي سيؤدي بالمنطقة إلى صيف حارق عاصف ثم إلى شتاء مليء بالثلوج - وفي كافة هذه الفصول سيكون هناك تهديدات كبيرة قديمة وحديثة.