عزل المُحكّم .. المشكلة والحل

إن كانت مسألة تعيين المحكمين - التي تطرقنا لها في مقالنا السابق - من الأمور المهمة، فإن مسألة كيفية عزلهم، إذا اقتضى الأمر ذلك، لا تقل أهمية عن مسألة تعيينهم، إذ لا يخلو نظام تحكيم إقليمي أو دولي من التطرق لها نظراً لما يعكسه هذا الأمر من جدية في مسار عملية التحكيم والوصول إلى حكم نهائي في النزاع التحكيمي يُطابق - قدر الإمكان - الحق والعدل والنظام.
وتكمن أهمية مسألة عزل المُحكّم في النظر إلى أسباب وإجراءات العزل وأثر ذلك في الدعوى التحكيمية، إذ إنه ليس من صالح الدعوى أن يستمر مُحكّم في نظرها والفصل فيها من قامت أسباب جدية لعزله أو رده، لأن ذلك سيؤدي في نهاية المطاف، وبعد بذل الجهد والمال والوقت، إلى خلل في حكم التحكيم، ما قد ينتهي إلى بطلانه لتحقق أسباب العزل.
وتتعدد أسباب وإجراءات عزل أو اعتزال المُحكّم حسبما ينصّ عليه كل نظام، حيث نصت المادة الحادية عشرة من نظام التحكيم السعودي الصادر بالمرسوم الملكي رقم م/46 في 12/07/1403هـ على أنه "لا يجوز عزل المُحكّم إلا بتراضي الخصوم، ويجوز للمحكم المعزول المطالبة بالتعويض إذا كان قد شرع في مهمته قبل عزله ولم يكن العزل بسبب منه، كما لا يجوز رده عن الحكم إلا لأسباب تحدث أو تظهر بعد إيداع وثيقة التحكيم". ويظهر من مطالعة نص المادة السابقة أن النظام اشترط تراضي خصوم الدعوى التحكيمية على عزل المحكم مع أحقية المحكم المعزول في التعويض عن عزله شريطة أن يكون قد شرع في نظر الدعوى، أي باشر إجراءاتها ولم يكن سبب العزل يرجع إليه، كما حفظت المادة السابقة أيضاً للمحكم عدم رده في الدعوى إلا بسبب ظاهر بعد إيداع وثيقة التحكيم مقر الجهة المختصة، وإن كانت هذه المادة أيضاً لم تتطرق إلى إمكانية اعتزال المحكم من تلقاء نفسه.
والهدف الذي تبناه نظام التحكيم من النص على أحقية الخصوم في عزل المحكم هو الحفاظ على قاعدة رضائية التحكيم واستمرار مبدأ أحقية الخصم في اختيار مُحكمِه، إذ إنه حال ثبوت سبب العزل قد يتكوّن لدى الخصم اعتقاد بعدم رضاه عن الحكم، إضافة إلى العديد من الأسباب والمحاذير الأخرى.
إلا أنه قد يرى أنه ليس شرطاً لعزل المحكم أن يتوافق الخصوم على عزله، فمتى توافرت الأسباب المؤدية إلى ذلك جاز لأحد الخصوم طلب عزل المحكم إذا لم يبادر هو من تلقاء نفسه إلى الاعتزال، ويكون للجهة المختصة بنظر النزاع تقرير مدى أحقية أحد الخصوم في طلب عزل المحكم في حال الاختلاف مع الخصم الآخر.
والأسباب التي يُعزل بها المحكم غير محدودة، ويمكن القول إنها هي الأسباب ذاتها التي ينعزل بها القاضي، كأن يطرأ عليه ما يفقده صفات القضاء مثل الجنون والخرس أو مرض يمنعه من مباشرة الأعمال المسندة إليه وغيرها من الأسباب العديدة الأخرى، بيد أن محاولة حصر كل الأسباب التي يمكن أن يُعزل بسببها المحكم قد يكون غير ممكن أو عملي على أرض الواقع، إذ قد تتعدد الأسباب وتختلف حسب الحالات والظروف وإن كان لا يوجد نظام في المملكة ورد به حصر حالات عزل القضاة وأسبابه، إلا أن بعض هذه الأسباب وردت مبعثرة في أنظمة عدة، منها قيام علاقة مباشرة أو غير مباشرة بين القاضي وأحد الخصوم إلى درجة معينة، أو إذا كانت للقاضي مصلحة شخصية أو مادية أو معنوية في القضية التي ينظرها، وهذا ما تم النص عليه في نظام المرافعات الشرعية، ولا ينفي ذلك ما تم النص عليه في المادة الرابعة من اللائحة التنفيذية لنظام التحكيم من أنه "لا يجوز أن يكون محكماً من كانت له مصلحة في النزاع وحُكم عليه بحد أو تعزير في جرم مخل بالشرف، أو صدر بحقه قرار تأديبي بالفصل من وظيفة عامة أو حكم بشهر إفلاسه ما لم يكن قد رد إليه اعتباره"، ويُعد ما ورد النص عليه في هذه المادة سبباً آخر لطلب عزل المُحكّم.
ويمكن القول إن السند في قياس أسباب عزل المحكم على أسباب عزل القاضي هو اتحاد العلة، ولأن كلاً منهما يجلس مجلس القضاء ويقضي في خصومات بين الناس ويكون لحكمة الحجية المطلوبة متى استنفد طرق الطعن عليه أو ذيل بالصيغة التنفيذية، كما أن نظام التحكيم قد ساوى بين المحكم والقاضي فيما يتعلق بأسباب رد المحكم والقاضي، التي قد تكون أقل حدةٍ من أسباب العزل وبالقياس يستنتج إلى أن أسباب عزل المحكم هي أسباب عزل القاضي ذاتها.
وحال تحقق أحد أسباب أو حالات العزل وجب على المحكم أن يتنحى من تلقاء نفسه عن نظر النزاع وإلا اضطر الخصوم إلى عزله عن طريق القضاء، وإذا ما أصر المحكم على السير في الإجراءات التحكيمية رغم توافر أسباب العزل والحكم في النزاع كان حكمه باطلاً، ويعد بطلان هذا الحكم من النظام العام الذي يجوز لأي من الغير التمسك والدفع بهذا البطلان في أية مرحلة كانت عليها الدعوى، بل يجوز للقضاء أن يقضي بالبطلان ولو من تلقاء نفسه.
وحرصاً من نظام التحكيم على إتمام إجراءات التحكيم وعدم تأخير الفصل في الدعوى نص النظام في المادة الرابعة عشرة على تمديد مدة التحكيم 30 يوماً حال عزل المحكم وإحلال آخر محله، إذ نص على أنه "إذا عُيّن بدلاً عن المحكم المعزول أو المعتزل امتد الميعاد المحدد للمحكم ثلاثين يوماً".
والأمر الذي يستحق التوقف والتأمل كثيراً هو أن نظام التحكيم لم يتطرق لحالة غياب المحكم عن جلسات التحكيم المحددة لنظر النزاع، سواء كان عضواً في هيئة تحكيم أو محكماً فرداً، وتنشأ هذه المشكلة حال التحكيم الحر وليس المؤسسي، والأول هو الذي يخضع في شروطه واختيار المحكمين والإجراءات وغيره لإرادة الأطراف، أما الثاني فهو الذي تلجأ فيه الأطراف لأحد مراكز التحكيم التي يكون لها من القواعد واللوائح ما ينظم العملية التحكيمية برمتها. وحلاً لهذه المشكلة لا بد من صدور تشريع واضح يمنع الضرر بمصالح الناس، مع العلم أنه يحق حسب الوضع الحالي للخصوم الرجوع إلى الجهة المختصة بطلب عزل هذا المحكم وتعيين آخر محله إذا لم تكن هنالك أسباب مقبولة لغيابه، كما يحق للأطراف طلب التعويض إذا أصابهم ضرر نتيجة ذلك.
كما يلاحظ في المادة الحادية عشرة من نظام التحكيم أنها تتضمن تعويض المحكم إذا تم عزله بعد قبوله مهمة التحكيم وقبل بدء إجراءات التحكيم، وهذا الأمر قد يسبب ضرراً معنوياً للمحكم ويستحق تعويضاً عن ذلك.
وتأسيساً على ما تقدم، فإنه يؤمل على من يتم اختياره محكماً أن ينأى بنفسه عن الشبهات وإذا ما توافرت أي من أسباب العزل أو الرد فعليه أن يبادر إلى التنحي وإن كان الخصوم لا يعلمون بأي من أسباب العزل أو الرد، وأن يبادر المحكمون إلى الإفصاح عن أي من هذه الأسباب قبل قبولهم مهمة التحكيم، نظراً للضرر الذي يترتب على ذلك وبالتحديد على الأطراف المتنازعة وربما على المحكم ذاته.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي