الخمسون سنة المقبلة.. مستقبل العلوم خلال النصف الأول من القرن 21

يقدم هذا الكتاب 25 مقالة تدور حول ما سيشهده مجال العلوم والتكنولوجيا من تقدم، وتركز على التطورات التي تؤثر في حياة جميع الناس، مثل أبحاث الخلايا الجذعية، والاستنساخ، وسلسلة الجينوم البشري، والذكاء الاصطناعي، وعلم الأحياء الفلكية، والحوسبة الكمية، ويلاحظ محرر الكتاب جون بروغمان أن اضطرار العلماء إلى الكتابة بلغة يستطيع زملاؤهم ممن ينتمون إلى علوم أخرى فهمها يتيح للقراء أصحاب الخلفية التعليمية العامة اللحاق بالركب، والنظر بعيون أفراد هذه الجماعة، وهم يتناولون أسئلة الساعة.
والعلماء المشاركون في هذه الأعمال لا يكتبون تبسيطات بهدف تسلية الجمهور، بل يكتبون لأقرانهم في فروع العلم الأخرى، ويشركونهم في المناظرات التي نشهدها في يومنا هذا، وليس الهدف تبسيط العلم، بل محاولة تقريب آخر الأبحاث العلمية، حيث يستطيع فهمها المنتمون إلى المجتمع العلمي ذاته، وجمهور عريض على السواء.
ينتظم مقالات الكتاب سؤال عن "الـ50 عاما المقبلة" في مختلف المجالات التي ينتمي إليها واضعوها، كيف ستغير الإنجازات العلمية على مدى نصف القرن المقبل؟ ما التطورات التي يمكننا توقعها في كل مجال أو علم معين، وكيف يمكنها أن تؤثر في فروع العلم الأخرى وتسمو فوقها؟ أي التوقعات الحالية لن يتحقق، وأيها سيمثل تحولات مفاجئة في الإدراك.
وهؤلاء العلماء المشاركون، هم: علماء الأحياء ريتشارد داوكينز، وبول دبليو، وبرايان جودوين، وستيوارت كاوفمان، وروبرت سابودسكي، والكيماوي بيتر أتكينز، وعلماء النفس بول بلوم، وميهالي شيكزنتميهالي، ونانسي اتكوف، وأليسون جونبيك، وجوديت ريتش هاريس، وجوفري ميلر، وعالم النفس والكمبيوتر جون إتش هولاند، وعالم النفس الباحث في الذكاء الاصطناعي رودني بروكس، والرياضيان إيان ستيوارت، وستيفن ستروجاتز، والفلكي مارتن رينز، وعالما الفيزياء النظرية بولد ديفيتز، ولي سمولين.
ويقسم الكتاب إلى قسمين، أحدهما "المستقبل نظريا" يتناول التقدم المتحقق في علم الكونيات، واستخدام النظم غير الواقعية والافتراضية في الرياضيات، والاتجاهات الجديدة في نظرية التعقيد، والتأملات في معنى أن يكون الشيء حيا، وفي كيفية تعلمنا وتفكيرنا وطبيعة وعينا وشعورنا وفي ما إذا كنا وحدنا في هذا الكون تمثل صورة فريدة من صور الذكاء.
ويغطي القسم الثاني "المستقبل عمليا" موضوعات من قبيل سلسلة الحمض النووي، وماذا سنعرف عن أنفسنا من خلاله، واستكشاف المريخ، والبحث عن حياة خارج كوكب الأرض، وسيطرتنا على المادة، وتفاعلنا الحميم مع آلاتنا وخاصة الحواسيب، والتصورات المستقبلية للفضاء المعلوماتي، وعلم الأعصاب، وطريقة تربيتنا لأطفالنا وآفاق مواصلتنا لرفاهتنا البدنية والذهنية.

المستقبل نظريا
يعرض لي سمولين (مستقبل طبيعة الكون) الأسئلة الكبرى في السنوات الـ 50 الماضية، وهي: ما طبيعة القوة الكبيرة التي تحافظ على تماسك الأنوية الذرية؟ وما طبيعة القوة الضئيلة المسؤولة عن الانحلال الإشعاعي؟ هل نظرية الحالة المستقرة الخاصة بالكون على صواب، أو هل كان هناك انفجار كبير على النحو الذي تكهن به جامو وغيره؟ هل للبروتونات والنيوترونات أي بنية داخلية؟ لم للبروتون والنيوترون كتلتان مختلفتان اختلافا طفيفا في حين أن الإلكترون أخف كثيرا من أي منهما؟ ولم لا توجد كتلة للنيوترينو؟ وما الميون، ومن الذي رتّبه؟ ما العلاقة بين النسبية العامة ونظرية الكم؟ ما الطريقة الصحيحة لفهم نظرية الكم؟ يقول سيمون إننا نعرف الإجابة عن الأسئلة الأربعة الأولى، وإن كنا نواصل طرحها، ولم ننسها، وما زلنا نحاول الإجابة عن الأسئلة الثلاثة الأخيرة.
ويتوقع مارتن ريز (التحديات الكونية: هل نحن وحدنا وأين؟) أنه سيكون في السنوات القليلة المقبلة ممكنا دراسة سطح المريخ وزحل وغيرهما من الكواكب والأقمار في المجموعة الشمسية بواسطة أسطول من المجسات الفضائية الممكن إرسالها.
لقد أمضى أينشتاين السنوات الـ 30 الأخيرة من عمره باحثا عن نظرية موحدة توفق بين نظرية الجاذبية (النسية العامة) ومبدأ الكم الذي يحكم العالم المصغر للجزيئات دون الذرية، ولكنه لم يتوصل إلى نتائج مجدية، وربما نتوصل يوما ما إلى نظرية مقنعة تقول لنا ما إذا كانت هناك أكوان متعددة أم لا، وإذا ما كان بعض ما يسمى قوانين الطبيعة مجرد قوانين داخلية محدودة في رقعتنا الكونية حتى قبل أن نتوصل إلى مثل هذه النظرية، يمكننا اختبار ملاءمة "الانتخاب الإنساني" بطرح سؤال عمّا إذا كان كوننا الفعلي نموذجا للمجموعة الفرعية التي يمكن أن نكون نشأنا فيها.
وفي علم الرياضيات يتوقع إيان ستيوارت (رياضيات عام 2050) أنه سيشهد ثورات كبرى، بفعل التأثير المتزايد للكمبيوتر والتحديات الجديدة التي تطرحها العلوم البيولوجية والقطاع المالي، ولكن التنبؤ الوحيد المأمون هو أن كثيرا منها سيكون من النوع الذي لا يمكن التنبؤ به.
تستمد الرياضيات قوتها من ائتلاف مصدرين، العالم الحقيقي والخيال البشري، وقد وضع ديفيد هيلبرت شيخ الرياضيين في عصره 23 مسألة مهمة ليتم حلها مستقبلا، وتم حسم معظمها الآن، وهذا يؤشر على التقدم في الرياضيات، وبعض هذه المسائل ظل معضلة محيرة لمئات السنين، وقد عرض معهد كلاي للرياضيات في كيمبردح بولاية ماساتشوسيتس عام 2000 سبع جوائز قيمة الواحدة منها مليون دولار أمريكي تمنح لمن يجد حلولا لسبع مسائل رياضية عسيرة مستعصية على الحل، ويتوقع ستيوارت أن معظم هذه المسائل سيحل في أثناء الـ 50 سنة المقبلة.
وسوف يتأصل في رياضيات عام 2050 الميل إلى استخدام الكمبيوتر كمساعد تفسيري في البراهين، وستوجد أنظمة "لا واقع افتراضي" تمكن الرياضيين من "زيارة" بنى مفاهيمية مجردة مثل الهندسات اللاإقليدسية أو سلاسل الأعداد الأولية العملاقة والتحكم بها كما يريدون دون جهد يذكر، تماما كما نستخدم اليوم الآلات الحاسبة في الأعمال الحسابية، وسيرتبط علم الرياضيات كثيرا بفيزياء الكم، وأما ما سيكون أعظم أثرا وأكثر راديكالية فهي الرياضيات المستلهمة من العلوم الحيوية، وهي الرياضيات الحيوية، وستكون لدينا بحلول عام 2050 نظرية رياضية قوية حول الظواهر الناشئة والديناميكا عالية المستوى للأنظمة المعقدة، وستؤدي إلى مفاهيم لم تخطر على بال حتى الآن، ولكن ستؤدي إلى فهم جديد لمحدودية النمذجة الرياضية في العلم، وستحدث ثورة في الرياضيات المالية والتجارية من خلال التخلي عن النمذجة "الخطية" الحالية وإدخال نماذج تعكس بنيتها الرياضية العالم الحقيقي بدقة، وستساعدنا الرياضيات على فهم أنماط الكون من منظور هذه الأنماط ذاتها، وليس فقط من منظور مليارات الأرقام المتراقصة التي تنشأ عنها هذه الأنماط وكأنها نوع من المعجزات.
وفي محاولته لدراسة الحاضر واكتشافه كاملا قدر المستطاع يرى برايان جودوين (في ظل الثقافة) أن ما يبرز بوضوح اليوم هو التحالف القوي بين العلم والتكنولوجيا والأعمال، الذي أسفر عن ثقافة عالمية تستند مبادئها الرئيسة إلى التنبؤ والسيطرة والابتكار والإدارة والتوسع، أما مرتكز هذه المبادئ فهو العقلانية والقوة اللذان دافع عنهما فرنسيس بيكون باعتبارهما السبيل إلى فهم الطبيعة، واستخدام تلك المعرفة لتحرير الإنسان من الرقّ، وقد نجحت هذه الاستراتيجية نجاحا غير عادي، وأصبحنا نملك بالفعل وسائل تحرير البشر من الجوع والفقر بتوليد الثروة والسلع، ولكنا أيضا انزلقنا على خلاف المتوقع إلى هوة عصر مظلم بسبب التلوث والنزف في الموارد والتغير المناخي.
ويشير هنا إلى أحد العناصر التي انضمت إلى الأجندة العلمية، وهي أصل الوعي وطبيعته، ومحاولة الإجابة عن السؤال "من أين يأتي الوعي؟ ومن أين تأتي المشاعر؟".

المستقبل عمليا
في تساؤله عما هو آت وكيفية التنبؤ به يقرر جون إتش هولاند أن من المحتمل أن يكون المصير لهذه التنبؤات إن لم يكن المتنبئ نفسه محفوفا بالمخاطر، ولكنه كما يقول تحدّ يصعب تجاهله، وبرأيه فإن أهم عامل في دقة التنبؤ هو مستوى التفاصيل، وفي مهمته للتنبؤ يبدأ بوصف التغيرات التكنولوجية المرجح حدوثها في مجالات عدة متشابكة مثل الحوسبة والروبوتية والبيولوجيا والنقل واستكشاف الفضاء، ثم يستنتج بعض التأثيرات الناجمة عن هذه التغيرات، أي تأثيرها على السكان والتخطيط والتعليم والخصوصية والطب وعصر جديد من الاستكشاف.
ستؤدي عمليات الدمج والتصغير والتطوير في الحواسيب إلى اختراع جهاز اتصال عالمي في حجم ساعة اليد، يضم كاميرا فيديو وكمبيوتر وجهاز تحريك صور وجهاز تحديد موقع وكمبيوتر محمول وشاشة عرض ثلاثية الأبعاد، ويوفر خيارات تحكم شاملة، وسيكون انتشار هذا الجهاز بمثل شهرة ساعة اليد، وستطور برامج الكمبيوتر نحو مزيد من المرونة والذكاء والتعلّم بالمستوى الذي يتمتع به البشر أو يقترب منه أو يشبهه، وسيكون هناك تأكيد مستمر على البرامج التي تعدل ذاتها بناء على التجربة لأجل الوفاء بالمتطلبات الخاصة بكل مستخدم على حدة.
ويؤدي ذلك في الحياة والتطبيق إلى تدهور وسط المدينة، والتقلبات في التجارة العالمية والطب وسائر مجالات الحياة، وربما تختفي وسائل العلاج التي كانت متبعة في القرن الـ 20، فسيؤدي تطور فهمنا للحياة والمرض وتطوير الأجهزة وتصغيرها إلى ثورة في العلاج والطب، وفي مجال النقل الذي تأخر فيه التغيير، فقد حررت السيارات التي ظهرت في القرن الـ 20 من الارتباط بالمكان، ولكنا ما زلنا نعاني من اكتظاظ الطرق، وربما يمكن تطوير وسائل للنقل خالية من الضوضاء وأقل تلوثا وأقل تكلفة.
ويرى هولاند الآن الأولوية القصوى على مستوى الـ 50 عاما المقبلة هي تقليص عدد السكان إلى مستوى يتلاءم مع الموارد، ولمواجهة نقص الإنتاج الغذائي وتقلص الغابات والنقص في الطاقة، وهناك مشكلة أخرى وهي الخصوصية وحرية السلوك دون مراقبة، فالقدرة العالية على تصوير الفيديو والتواصل السريع تحول كل إنسان إلى مراسل إخباري، وبرغم ما في ذلك من إيجابيات مثل مواجهة الجرائم والمظالم، ولكن الحرية الشخصية أصبحت مهددة بالانتهاك والتطفل.
وسيساعدنا تطور علم الأحياء على التحكم بالمرض والتحرر من الألم، وتقوية المناعة ضد المرض وفي المقابل ربما يكون ممكنا شنّ حروب بيولوجية، ووقوع أخطاء في الهندسة الوراثية.
ويتوقع رودني بروكس (اندماج الجنس البشري والآلات) أن الـ 50 سنة المقبلة تحمل تهديدا كبيرا للإنسانية، وقد تنشب حروب فكرية ودينية، وفي المجال التقني فإنه يتوقع أن تجري عمليات دمج للتكنولوجيا بجسم الإنسان، وسيكون ممكنا زراعة أجهزة بصرية وسمعية وغيرها تؤدي وظائف أعضاء الجسم أو تطورها، وسيكون ممكنا التواصل مع أجهزة الكمبيوتر أو الأجهزة المحوسبة بمجرد التفكير أو بجهد قليل جدا، ويساعد ذلك المصابين بالشلل والإعاقات الشديدة على التواصل وأداء كثير من الأعمال، ويمكن زرع رقاقات داخل الأجسام لتوجيه الأعصاب والتحكم بالوظائف الأساسية لدى المصابين بالسكتة الدماغية والشلل الرعاشي (باركنسون) والشلل الرباعي، وسنبدأ في تحقيق تحسينات بيولوجية في جسم الإنسان، وقد نمتلك قدرات بيولوجية جديدة يبدو بعضها اليوم خياليا، مثل تطوير الذاكرة، والتحكم بالجنين من حيث ذكائه وقدراته وطوله وشكله، وستنشر قطع الغيار البشرية لتعديل الأجسام وتعويض النقص والفقد في أجسام الناس، وستستخدم الكائنات المعدلة في تطوير المصانع.
ومع استمرار العمل العلمي والتقني ستواجهنا دائما المجموعة نفسها من الأسئلة المزعجة، ما معنى أن تكون حيا؟ ما الذي يجعل شيئا ما إنسانا؟ وما الذي يجعل شيئا ما "شبه إنسان"؟ ومن هو الإنسان السوبر؟ وما التغيرات التي يمكن أن نقبلها في الإنسانية؟ هل من الأخلاق التغيير في الحياة البشرية؟ وهن الأخلاق التغيير في الحياة البشرية بطرق تصحيحية معينة؟ ومن سيضع معايير التصحيح؟ ومن سيضع معايير "الحياة" "البشرية"؟ وما المسؤولية التي سيتحملها العلماء تجاه أشكال الحياة التي سيتلاعبون بها أو يعدلونها؟
هل سنزداد ذكاء؟ يتساءل روجر سي. شانك، هل الذكاء مطلق؟ هل يزيد ذكاء الجنس البشري بمرور الوقت؟ ستزداد قدرة وسهولة حصول الإنسان على المعلومات، وبزيادة قدرة الآلات على توفير الإجابات والمعلومات والعمليات الفكرية والعلمية، وستحل المدارس الافتراضية محل المؤسسات الحالية، وتجذب إليها الطلبة بسبب ما تمنحه من خبرات ومعارف، وقد يمكّن ذلك الطلاب من الالتحاق بالجامعات قبل الـ 18 بفترة طويلة، وعلى أية حال فإن التعليم في معناه العميق كان يعني دوما العمل وليس المعرفة، وقد يعود هذه المعنى من جديد، فيتلقى الإنسان الخبرة اللازمة والتي يحتاج إليها ويعمل على أساسها بلا حاجة إلى أنظمة تعليمية شاملة ونمطية، هل سنصبح مجتمعا أكثر ذكاء بفضل هذه الابتكارات؟ ربما لا نكون أكثر ذكاء ولكن خبراتنا ومعارفنا ستكون أكثر.
وفي مجال السيطرة على المرض يتوقع بول دبليو. إيوالد أنه بات محتملا في السنوات القليلة القادمة معرفة أسباب كثير من الأمراض وبالتالي معالجتها، ومن هذه الأمراض المتوقع السيطرة عليها: السكري، والسرطان، والزهايمر، وانفصام الشخصية، والاكتئاب، ولكنا سنظل نواجه في الـ 50 عاما المقبلة المرونة الجينية للفيروسات، فالفيروس المتسبب بمرض نقص المناعة "الإيدز" يتمتع بمرونة جينية تمكنه من تطوير مقاومته لمضادات الفيروس والإفلات من محاولات العلاج والمقاومة.
هذا الكاتب يثير الأسئلة أكثر من الإجابات ويمنح التوقعات أكثر من المؤكد، ولكنها لم تعد قضية ترفيه وإنما تمس حياتنا ومصائرنا وأعمالنا، وعليه فإن الثقافة العلمية المتقدمة والمعقدة تتحول إلى حياة يومية وثقافة شعبية تؤثر في الأعمال والقرارات والموارد، وهكذا فإن قيمة هذا الكتاب والكتب التي تشبهه ليس فقط فيما تمنحه من أسئلة وآفاق ومعارف، ولكن في الحث على المتابعة والتفكير الدائم في التحولات الناشئة عن التقدم العلمي والمصاحبة لها، والتي تغير حياتنا ومواردنا وأفكارنا، وكل شيء تقريبا.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي