الهشاشة الإسرائيلية خلف قناع من الصلادة
دخل في روع العالم أن إسرائيل قوة متمكنة، والمعروف أن اليهود يحرصون دائماً وبكل السبل على أن يظهروا للعالم في صورة البطل الأسطوري: داود الذي هزم جوليات. وهذه العقدة في رسم صورة مضللة تسحب ساسة اليهود إلى آفاق بعيدة، فإذا هم أمام سراب لأنهم لا يضعون في حساباتهم الكثير من التغيرات.
القضية الحالية هي انسحاب السلطة من المفاوضات واتخاذها القرار بأن تلجأ للأمم المتحدة للحصول على اعتراف عالمي بالدولة الفلسطينية، بعدما ثبت أن المفاوض الإسرائيلي يسخر من فكرة العودة ويهزأ بحق الفلسطينيين في القدس، ولذلك نجدهم يصفون القدس بأنها العاصمة التي ستدافع عنها إسرائيل، ويصحب ذلك حديث إعلامي عن خسارة العرب معركة القدس سنة 1967. وكما تعودنا فإن أفضل الحقائق التي نستخرجها عن إسرائيل تتمثل في حالة التفاخر والتباهي بالقوة، والهجوم الرهيب على كل من يبرز الحقائق أو يطبق القوانين أو يسعى وراء العدالة.
إسرائيل تأسست فعلا بقرار التقسيم سنة 1947، وبعد أن تداولت هيئة الأمم المتحدة هذا الموضوع قررت إعطاء شرعية لليهود لتأسيس دولة، فماذا يقول الإسرائيليون اليوم عن المنظمة التي أعطتهم كل شيء؟ وكيف يصفون الأمم المتحدة التي لولاها ما كان هناك دولة معترف بها عالميا تدعى إسرائيل؟ إنهم يقولون بالحرف الواحد ''إن الأمم المتحدة مؤسسة مفلسة أخلاقياً، وهي عديمة الفعالية والتأثير في إصلاح الحركة الوطنية الفلسطينية''.
وعلى الجانب الآخر تصف إسرائيل نفسها في الوسائل الإعلامية التابعة لها بأنها ''دولة قوية ومتماسكة وقادرة على مواجهة المد الانفصالي الفلسطيني!!
ويعلق الإسرائيليون على انسحاب الفلسطينيين من المحادثات بأن الفيتو الأمريكي في انتظار أي خطوة مضادة لإسرائيل، وهو تأكيد على أن الولايات المتحدة خصم متكامل الأركان ضد العرب، وهي تلعب دوراً ملموساً في إصفافهم والتدخل السافر في شؤونهم بحجة إقرار الديموقراطية وإن كان هدفها حرمان الفلسطينيين من أي دعم عربي لانشغال كل الدول العربية بشؤونها، وهو هدف إسرائيلي محض. وتبدو الهشاشة الإسرائيلية في أوضح صورها عندما يأتي ذكر الجمعية العامة التي من المقرر أن تعترف بالدولة الفلسطينية في حدود سنة 1967، وهنا نسمع الرفض الإسرائيلي في تصريحات على شاكلة'' وقرار الجمعية العامة ليس ملزما بمقتضى القانون الدولي، والأكثر إثارة للسخرية هو الإقرار الإسرائيلي بأن رفض أمريكا يلغي أي فعالية للأمم المتحدة. ولذلك فعندما كتبنا كثيراً أن الأمم المتحدة هي إدارة في وزارة الخارجية الأمريكية لم نكن نتجاوز الحقيقة، فهي هناك لتوقيع العقوبات على خصوم أمريكا ثم التصريح بضربهم حسب هوى المحور الشرير المكون من الولايات المتحدة وإسرائيل والاتحاد الأوروبي الذي ينضم أحيانا لهما.
غير أن إيهود باراك وزير الدفاع الإسرائيلي حذر من ''تسونامي دبلوماسي'' في حالة إقرار الجمعية العامة لحق الفلسطينيين في الدولة.
وقد لفت انتباهي دراسة صدرت عن مركز بيجين - السادات الإسرائيلي للبحوث، الذي وصف مخاوف باراك بأنها مبالغ فيها، لأن ''الأمم المتحدة تفتقر إلى الشرعية لأنها تعطي أسوأ المعتدين ومنتهكي حقوق الإنسان في العالم أجمع نفس الفرصة التي تعطى للأخيار''، وكأنما يصف الإسرائيليون أنفسهم باعتبارهم من أعتى المعتدين ضد المدنيين من الأطفال والنساء والشيوخ وبصورة شبه منتظمة. وتواصل دراسة مركز بيجين – السادات التساؤل: كيف يمكن لمؤسسة بهذا الضعف أن تحسم صراعا عرقيا امتد لما يقترب من قرن كامل؟ وماذا يمكن للأمم المتحدة أن تصنعه لتطبيق قرارات الجمعية العامة؟ إن الإجابة هي: لا شيء، وهو ما سوف يصيب الفلسطينيين بالإحباط ويدفعهم إلى مزيد من التعنت.
وتنطلق الدراسات والمقالات الصادرة عن إسرائيل لتحول مضمون القضية إلى مهاترات على شاكلة: هل يمكن للجمعية العامة توحيد الصف الفلسطيني؟ هل يمكن لها أن تحول هذه الكيانات المحطمة إلى وحدة سياسية؟ هل يمكن أن تجمع الرأي بين حماس والسلطة لتقديم طلبات محددة للمفاوض الإسرائيلي. وسرعان ما تذكر الإسرائيليون أن حماس تنادي بقتلهم، وأن ثقافة ''الشهيد'' تحكم السلوك السياسي الفلسطيني، مما يعني صعوبة إثنائهم عن قرارات المواجهة. وتذكر إسرائيل بالانتفاضة الأولى والثانية التي ذاقت منها الأمرين.
ويلوح الإسرائيليون بورقة البراجماتية أي اختيار الحلول العملية وعلى رأسها من وجهة النظر الإسرائيلية عدم الحديث عن حق العودة الذي تعتبره إسرائيل ''غير واقعي ومعوقا كبيراً للتفاوض''، وهناك أيضاً قضية القدس التي تردد إسرائيل ''أنها حسمت إلى الأبد''، ولأن الفلسطينيين يرفضون التنازل عن هذين الأمرين، فهم ''خاسرون سيئون''، ويريدون تحويل التاريخ، والسبب أنهم يرفضون التنازل.
ويلوح الإسرائيليون لتحويل الضفة الغربية إلى جنة اقتصادية، والثمن هو التنازل لأنه من الصعب أن تتأسس دولة بالتسول من الأمم المتحدة كما تزعم إسرائيل، كما أن إسرائيل تعتمد إزاء الفلسطينيين استراتيجية قوامها الصراع بين حماس والسلطة، وهو نفس المنطق الأمريكي في جميع الدول العربية، أي شرخ المجتمع سياسيا وترك الأطراف في حالة صراع، وقد يروق للولايات المتحدة الوقوف مع طرف ضد آخر، وقد تفضل الحياد وتحريك الأمور من وراء ستار، وما علينا إلا إحصاء عدد العاملين الأمريكيين في السفارات الأمريكية في العالم العربي، وما أهمية أن يكون عددهم في مصر فوق أربعة آلاف؟ إلا إذا كان الهدف أن لهم مهام أمنية وسياسية وغيرها.
وفي هذه المقالات الأخيرة العديد من نقاط الكشف عن كل ما تضمره إسرائيل، فهي تعترف بأنها توجه الضربات لحماس حتى تخفف العبء عن السلطة. وتستخدم أسلوب العصا والجزرة. والجزرة هنا هي سوق العمل الإسرائيلي الذي يفتح أو يغلق في وجه الفلسطينيين حسب توجههم السياسي، كما أن تحويل الأموال يتم عبر البنوك الإسرائيلية، فضلا عن العديد من الخدمات التي تدير عمليات حيوية - وهنا يقف الصوت الإسرائيلي ليسأل: هل يمكن لدولة فلسطينية تحقيق خدمات مماثلة؟
ويتحول الصوت الإسرائيلي المهتز إلى نغمة قديمة، فيقول: إن المعركة بين دولة قوية وديموقراطية وغنية وتتمتع بتفوق عسكري كبير وبين كيان فاسد شمولي ممزق هو الفلسطينيون، فإذا وقع ارتطام عسكري فالنتيجة مدمرة على الفلسطينيين، ولا يخفى على القارئ الكريم لهجة التهديد التي تلجأ إليها إسرائيل كلما شعرت بالضغوط، إلى جانب اللجوء الفوري للولايات المتحدة المتعهد الدائم بسلامة إسرائيل.
وتهدد إسرائيل بأنها ستقوم بتجميع وضم الكتل الاستيطانية ومنطقة اللسان الأردنية لتصنع منها قاعدة عسكرية حصينة على امتداد نهر الأردن، كما أن إسرائيل تهدد بفرض عقوبات على الفلسطينيين لعدم التزامهم الكامل بما ورد في اتفاقية أوسلو. كما تتحدث إسرائيل عن دعم أمريكي كامل في جميع مطالبها وعلى رأسها الاعتراف بها كدولة يهودية، وإيقاف أية محاولات لإرسال فوافل وتهدئة المصريين في أعقاب حادث الحدود الإجرامي الذي راح ضحيته ستة من المصريين.
ويناشد الإسرائيليون شعبهم اليهودي أن يدعم حكومة نيتنياهو حتى يتمكن من القضاء على العناد الفلسطيني، خاصة وأن التطورات التي تحدث في البلاد العربية تدفع إسرائيل إلى الإصرار على حدود يمكن الدفاع عنها.
اللافت للنظر هو الإصرار الإسرائيلي على مطالبهم بغض النظر عما يحدث من تطورات وما يقع من تغيرات، وقد اتضح الآن أن المطلوب هو توحد فلسطيني يعطي إسرائيل رسالة جديدة، ويؤكد على تصميم فلسطيني لنيل حقوقهم.