الأمل .. في بنك .. يزرع الأمل
الخبر الذي نشرته بعض الصحف السعودية في الأسبوع الماضي دون أن يثير كثيرا من الانتباه كان خبر فوز بنك الأمل في اليمن بالجائزة العالمية لأفضل ابتكار في مجال منتجات التمويل الأصغر، وذلك في القمة التي عقدت حول هذا الموضوع في سويسرا في تموز (يوليو) الماضي، وهي المرة الثالثة التي يفوز فيها بهذه الجائزة على مدى عمره القصير. هذا البنك كان قد أثار إعجابي ودهشتي عندما سنحت لي الفرصة لزيارته ضمن برنامج الزيارة التي قمت بها لوادي حضرموت في ضيافة المهندس عبد الله بقشان قبل نحو ثمانية أشهر، وتناولته بالحديث والإشادة بعد ذلك في كل مناسبة وكل مقال يتعلق بمواضيع التمويل ودور البنوك في التنمية. وأنا هنا أوجه التهنئة خالصة للمهندس عبد الله بقشان ولمؤسسة حضرموت للتنمية البشرية ولكل العاملين في هذا البنك والقائمين عليه على هذا الإنجاز العالمي المبرز، راجيا لهم جميعا مزيدا من النجاح والتميز.
نص الخبر الذي أوردته الصحف قال إن هذا الفوز يعد دليلا آخر يثبت جدوى التمويل الأصغر في المجتمعات العربية، وهو ما جعلني أتساءل عن سبب غياب طرح هذا النموذج في المملكة حتى الآن، باعتبارها إحدى الدول العربية التي يفترض أن يلائمها هذا النموذج - بحسب رؤية برنامج الخليج العربي للتنمية ''أجفند''. فإما أن تكون مؤسسة النقد العربي السعودي والأجهزة الأخرى المسؤولة عن مراقبة وتنظيم الأعمال المالية والبنكية في المملكة معارضة أو غير مقتنعة بجدوى تطبيق هذا النموذج في المملكة، وإما أن رجال الأعمال وكل هذا القطاع الخاص المترامي الأطراف المثقل بالموارد المالية المهولة لم يملكوا بعد روح المبادرة اللازمة لتبني هذا النموذج وتطبيقه في المملكة، ولا حتى من قبيل المسؤولية الاجتماعية تجاه هذا الوطن وأبنائه، أو أن كل أبناء هذا الوطن هم من الموسرين المستورين الذي لا يحتاجون إلى هذا النوع من التمويل، ولا يطرقون أبواب البنوك التجارية في كل صغيرة وكبيرة من شؤون حياتهم. يدور في خلدي أحيانا أن هناك قناعة عامة عارمة بأن مثل هذه الأنشطة والأعمال تصنف ضمن الأعمال الخيرية كونها تتعامل مع الشرائح الأضعف والأبسط والأفقر في المجتمع، وهو ما يجعل مؤسساتنا البنكية تترفع عن تبنيها بما تتصف به من نرجسية وتخصص في خدمة كبار العملاء من الأفراد والشركات وفتح خزائن التمويل لهم على مصاريعها. والحقيقة الثابتة وفق التجارب العالمية، بما فيها تجربة بنك الأمل اليمني، أن هذا النشاط يحقق عوائد مجزية بشكل كبير مقارنة بعديد من الأنشطة الاستثمارية، أو حلول التمويل الموجهة للفئات التقليدية. فالثابت أن نسب التخلف عن السداد في هذا النوع من التمويل تكاد تكون معدومة بالنظر إلى حرص المتعاملين من هذه الفئة على المحافظة على سجلات ائتمانية نظيفة وعلمهم بحاجتهم الدائمة إلى هذا المصدر للتمويل، وتكلفة التمويل فيه يمكن أن تكون أكبر منها في عمليات التمويل التقليدية بالنظر إلى صغر حجم التمويل فيها. وأنا أتعجب في الحقيقة كيف أن هذا النشاط لم يجد له مكانا بعد ولو على سبيل الدراسة والتمحيص والتحليل لمعرفة جدوى تطبيقه بشكل مؤسسي في المملكة، في الوقت الذي نرى جميعا ذلك الكم الهائل من الإعلانات في الصحف والملصقات على جدران محطات الوقود والمراكز التجارية التي تسوق لخدمات التمويل الأصغر من قبل أفراد لا يخضعون لأي رقابة ولا تنظيم، مع ملاحظة فارق رئيس هنا، وهو أن التمويل الذي يقدمه أولئك تمويل استهلاكي بحت يغرق الناس في بحور من الديون الخانقة، بينما برامج التمويل الأصغر التي يمثلها نموذج بنك الأمل اليمني تقدم حلولا تمويلية تنموية تساعد الناس على خلق فرص للعمل والعيش الكريم.
السبب - في رأيي المتواضع - يرجع أولا إلى غياب القدرة على الإبداع في عالمنا الاقتصادي المحلي، وهو ما تشهد عليه التجارب المكررة في عالم الاستثمار، فما إن ينجح أحد في نشاط ما إلا ووجدت الكل يقبل على النشاط ذاته دون أي محاولة للتميز أو التخصص، حتى أنك تجد شارعا واحدا يضم نماذج مكررة من نشاط واحد ينافس أصحابها بعضهم بعضا إلى الحد الذي يؤدي بهم جميعا إلى الفشل والخسران المبين. والسبب يرجع ثانيا إلى ذلك التشبع في الأرباح والأصول التي تتمتع بها مؤسساتنا البنكية وبيوتاتنا التجارية، وهي بذلك لا تحتاج إلى أن تبحث عن وسائل أو قنوات استثمارية غير تقليدية وربما تكون محملة بمخاطر غير منظورة، دون أن يكلفوا أنفسهم عناء قياس ودراسة هذه الفرص والأفكار وما تحمله من مخاطر. والسبب يرجع ثالثا إلى قصور كبير في تحمل المؤسسات البنكية والتجارية مسؤولياتها الاجتماعية، وقصور كبير أيضا في فهم هذا المصطلح الذي لا يعدو عند كثيرين منهم شعارا يرفعونه ويعبرون عنه بأنشطة ومبادرات متواضعة لا تسمن ولا تغني من جوع، ولا تسهم إسهاما حقيقيا في تنمية المجتمع وتطوير قدرات أفراده. لكن السبب الأهم - في وجهة نظري - غياب القناعة والدعم الحكومي لهذا النشاط، والانشغال، بل والاكتفاء بإدارة القطاع البنكي برؤية تقليدية يغلب عليها التحفظ وغياب المبادرات الخلاقة، ونحن نسمع كثيرا من الشكاوى من البنوك التجارية والمؤسسات المالية الأخرى بما فيها شركات التأمين مثلا، من كم القيود والأنظمة التي تضعها مؤسسة النقد على أنشطة تلك المؤسسات، التي جعلتها مكبلة لا تستطيع تقديم أية برامج أو حلول مبتكرة لو أرادت. هذا الواقع يبرر على سبيل المثال سقوط مصرف الإنماء في فخ الانجرار إلى ممارسة الأنشطة والعمليات البنكية التقليدية ذاتها مثله في ذلك مثل كل البنوك التي سبقته، في الوقت الذي كان تأسيسه، حسبما فهم كثيرون حينها، هدية للوطن والمواطنين من ملك البلاد الصالح، ليقوم بدور مميز ومختلف في دعم وتمويل مسيرة التنمية على المستويات كافة، وهو ما عبر عنه اسمه الذي بات لا يملك منه أي نصيب، فإذا به يمارس الأنشطة البنكية ذاتها ويقدم ذات البرامج التمويلية الاستهلاكية التي تقدمها البنوك الأخرى، وهو ما جعله يعاني الأمرين ويبذل قصارى جهوده ليعلن تحقيق أرباح شكلية لا تساوي شيئا أمام رأسماله الضخم الذي جمعه من استثمارات المواطنين الطامحة إلى بنك مختلف.
خلاصة القول، نموذج بنك الأمل اليمني يستحق كل الإشادة والتقدير، وبلادنا تستحق أن يكون فيها بنك للأمل يزرع الأمل في صدور أبنائه، وقطاعنا الخاص يملك كل الإمكانات لتبني هذا النموذج وتسخير كل فرص النجاح له. كل المطلوب أن يرفع أحد ما راية المبادرة ليتبعه آخرون كثر ممن حباهم الله حب الوطن وحب الخير لأبنائه، وأن تخفف مؤسسة النقد وأجهزة الدولة الأخرى من قيودها ولو قليلا لتتيح المجال لهذا النموذج أن ينشأ وينجح. وربما يكون الأقدر على رفع راية المبادرة هذه هو صندوق الاستثمارات العامة، فهو الأقدر على لعب هذا الدور، والأكثر إيمانا وانخراطا في دعم برامج التنمية الوطنية، خاصة مع بطء أو تعثر صناديق أخرى كان يؤمل منها الكثير، بما فيها صندوق المئوية والصندوق الخيري الوطني وصناديق أخرى ما زالت تحبو بعيدا عن الأهداف المرجوة منها.