المسؤولية الاجتماعية بين الواقع والتطلعات

شاع الحديث في السنوات الأخيرة عن مصطلح المسؤولية الاجتماعية في المملكة، وأصبح كثير من الشركات والمؤسسات في القطاع الخاص، وخاصة البنوك التجارية، تعلن عن أنشطتها وبرامجها في إطار تبنيها مفهوم المسؤولية الاجتماعية. أغلبية هذه البرامج تأتي في شكل أعمال خيرية موجهة للفئات المحتاجة في المجتمع، ودعم الجمعيات الخيرية والأسر المنتجة، وقليل منها يأتي في شكل أنشطة توعوية أو اجتماعية أو مهنية، بما في ذلك برامج التنظيف البيئي والتوعية المرورية وغير ذلك. وفي الحقيقة، فإن شيوع هذا المفهوم بين مؤسسات القطاع الخاص يعد مؤشرا إيجابيا على تزايد قناعة المسؤولين فيها بأهمية انخراطهم في هذا الدور المجتمعي المهم، وما يمكن أن يحققه من عوائد مباشرة وغير مباشرة على المجتمع والقطاع نفسه. المشكلة أن هذا التوجه لتبني هذا المفهوم تغلب عليه في معظم الأحيان سمة تسويقية طاغية دون أن تحقق عائدا ملموسا أو جدوى حقيقية للفئات أو القطاعات التي توجه إليها هذه البرامج. كما أن هذه البرامج غالبا ما تأتي بمبادرات متناثرة عشوائية لا تستند إلى تقييم حقيقي للقطاعات التي تحتاج إلى مثل هذه المساهمات، ولا يتبعها أي قياس للأثر الذي أحدثته هذه البرامج في تلك القطاعات. وهو ما يجعل برامج المسؤولية الاجتماعية تتسم في مجملها بالعشوائية والضعف، في الوقت الذي يمكن أن يتم توظيفها لتعظيم أثرها في مجمل شرائح وفئات المجتمع.
الشيء الأكيد أن المسؤولية الاجتماعية لا تختص فقط بالأعمال الخيرية، إذ إن الشريعة الإسلامية السمحة وضعت أسسا وقنوات لهذه الأعمال بما فيها الزكاة والصدقات بمختلف أشكالها الواجبة منها والمندوبة. والشيء الأكيد أيضا أن المسؤولية الاجتماعية لا يتم التعبير عنها بوسائل تمويلية بحتة، إذ إن تنمية المجتمع وتطوير قدرات أفراده تتطلب كثيرا من الوسائل بخلاف العنصر المادي. والحقيقة أن واقع المجتمع يبرز كثيرا من المشكلات وأوجه النقص والقصور التي لا يزال دور الدولة قاصرا عن معالجتها بالنظر إلى طبيعة العمل الحكومي الذي يتسم بالبيروقراطية، وكثرة الملفات التنموية التي يجري العمل عليها. هذه العناوين تمثل فرصا حقيقية وقنوات حيوية يمكن للقطاع الخاص أن يتناولها ويمد إليها يد التفعيل والمعالجة، انطلاقا من حتمية تكامل دوره مع دور القطاع الحكومي، ومسؤوليتهما المشتركة في تنمية المجتمع وتطويره، وهو ما يمكن أن يعظم الفعالية من برامج المسؤولية الاجتماعية في مؤسساته ويجعلها أكثر قربا من شرائح المجتمع المختلفة. مشكلة البطالة على سبيل المثال كانت وما زالت مشكلة مستعصية على الحل حتى مع كل تلك المبادرات التي أعلنت عنها الدولة في الآونة الأخيرة. هذه المشكلة يمكن أن تتوجه إليها مؤسسات القطاع الخاص ببرامج مسؤوليتها الاجتماعية من خلال برامج ممنهجة لتدريب الشباب والشابات وتأهيلهم وتوظيفهم، واحتضان المؤسسات الصغيرة والناشئة، ودعم الصناديق التي تعمل في هذا المجال وتشتكي من قلة الموارد، ودعم ورعاية البرامج التوعوية الموجهة لتشجيع الشباب والشابات على التخلي عن ثقافة الوظيفة والانخراط في الأعمال الحرة، وغير ذلك الكثير مما يمكن لهذه المؤسسات فعله في هذا المجال. وفي قضية الإسكان أيضا يمكن للشركات عموما والشركات العقارية خصوصا أن تقوم بالكثير، بدءا بتبني خطة ممنهجة تتكامل مع توجهات الدولة للسيطرة على أسعار الأراضي، وتبني برامج البحث والتطوير والتوعية لتطوير أنظمة حديثة للبناء تغير ذلك النمط التقليدي الذي تتم ممارسته إلى الآن بكل ما فيه من هدر، وتحقق التطلعات نحو تقليل تكاليف البناء ورفع جودته، ودعم الأفكار الاستثمارية نحو تطوير صناعة البناء والتطوير العقاري ومنظومة الخدمات العقارية لتحقق ارتقاء بالسوق يعود بالنفع على المستفيدين منه. وفي قضية الطاقة أيضا يمكن لهذه الشركات أن تدعم برامج التوعية المستمرة لترشيد استهلاك الطاقة، وأن تبدأ بنفسها أولا في سن القدوة الحسنة لتبني وسائل الترشيد والبناء الأخضر في مشاريعها وأنشطتها وممارساتها اليومية. هذه القضايا وغيرها كثير من القضايا التي تمثل تحديات حقيقية في مسيرة التنمية في المملكة، وتمس بآثارها السلبية كل شرائح المجتمع، يمكن أن توجه إليها برامج المسؤولية الاجتماعية، حتى تحقق تلك البرامج عوائد حقيقية تتجاوز المردود التسويقي والترويجي لشركات القطاع الخاص.
الشيء الذي يدور حوله كثير من الجدل والتساؤلات هو أن هذه البرامج والمبادرات ما زالت تطلق بين الفينة والفينة تبعا لقناعة ومزاج القائمين على الشركات والمؤسسات في القطاع الخاص، وليس بناء على متطلبات تنظيمية تفرض كمّا محددا من تلك المساهمات في برامج المسؤولية الاجتماعية.
وأنا أتساءل هنا عن إمكانية وجدوى تنظيم هذه البرامج تحت إشراف جهة مركزية قد تكون وزارة التجارة على سبيل المثال، وأن يتم وضع أطر تنظيمية تلزم الشركات بتخصيص نسبة محددة من ميزانياتها وأرباحها السنوية لتوجيهها لبرامج المسؤولية الاجتماعية. هذا الطرح سيواجه بكل تأكيد كثيرا من المعارضة استنادا إلى أن هذه المبادرات لا يمكن أن تكون على سبيل الإلزام.
ولكنني أعتقد جازما أن المجتمع برمته، بمن فيهم المسؤولون في القطاع الخاص، سيكونون فرحين بالعوائد والآثار الإيجابية التي ستعود على المجتمع رقيا وتطورا. ربما تكون الخطوة الأولى في هذا الاتجاه هي تأسيس مؤشر للمسؤولية الاجتماعية تديره وزارة التجارة مثلا ليبرز مساهمات القطاع الخاص في هذا المجال، ويكون أساسا لمنحه حزما متفاوتة من الحوافز والمكاسب.
وأجزم أن الشركات ستعمل بجهد أكبر وبكم أكبر من الإبداع لبذل جهود أكبر في مجال المسؤولية الاجتماعية إن هي وجدت، شيئا من المكاسب الملموسة أو خشيت شيئا من الخسائر إن هي قصرت عن أداء دورها المأمول. وفي كل الأحوال سيكون الكاسب الأهم من هذا التوجه هو المجتمع والوطن.

كاتب متخصص في شؤون التنمية

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي