الأخطاء الطبية.. فداحة الضرر وضآلة العقوبة

الأخطاء الطبية في المملكة وصلت إلى درجة خطيرة ومخيفة وغير مقبولة، إذ هي في تفاقم مستمر بأعداد كبيرة، فهناك الكثيرون الذين يفقدون حياتهم أو يصابون بعاهات مستديمة من جراء هذه الأخطاء، وإزاء هذا الأمر فلا بد من التدخل السريع والعاجل لصون حياة الناس وأجسادهم التي هي أغلى ما يملكون من خلال عقوبات رادعة ومغلظة ضد مرتكبي هذه الأخطاء.
إن مهنة الطب في أساسها تتعلق بهدف نبيل ومقصد عظيم وهو حفظ النفس والجسد، وهذا ما أكدت عليه كافة الشرائع والنظم، ولقد اهتمت المملكة بتنظيم عمل هذه المهنة الإنسانية من خلال إصدار نظام مزاولة المهن الصحية رقم م/59 بتاريخ 04/11/1426هـ، حيث تم بموجبه تحديد الإطار القانوني الذي يحكم عمل الممارس الصحي والطبيب لمهنته، كما تم توضيح شروط صدور التراخيص اللازمة بمزاولة المهن الطبية وواجبات الممارس الصحي، حيث أفاضت المادة الثانية في ذلك وأوردت: أ ــ يحظر ممارسة أي مهنة صحية إلا بعد الحصول على ترخيص بذلك من الوزارة . ب ــ يشترط للترخيص بمزاولة المهن الصحية ما يأتي:
1 ـ الحصول على المؤهل المطلوب للمهنة من أي كلية طبية أو كلية صيدلية أو ...
2 . أن يكون قد أمضى مدة التدريب الإجبارية...
3 . التسجيل لدى الهيئة وفقاً لمتطلبات التسجيل ...
4 . ألا يكون قد سبق الحكم عليه في جريمة مخلة بالشرف أو الأمانة إلا إذا رد إليه اعتباره . كما تناولت المادة الخامسة الواجبات العامة للممارس الصحي: (يزاول الممارس الصحي مهنته لمصلحة الفرد والمجتمع في نطاق احترام حق الإنسان في الحياة وسلامته وكرامته مراعياً في عمله العادات والتقاليد السائدة في المملكة مبتعداً عن الاستغلال)، وغيرها من مواد النظام التي وضحت بجلاء كافة واجبات الممارس الصحي التي يجب التزامه بها سواء كانت تجاه زملائه أو تجاه المرضى أو مساعدة الجهات المختصة في المحافظة على الصحة العامة وغيرها.
وإدراكاً لأهمية وحساسية الدور الذي يقوم به الطبيب أو الممارس الصحي الذي يتعامل مع حياة الأفراد فقد تناولت المادة السابعة (الفقرة أ) أهمية تأهيله وتسلحه بالعلم والمعرفة دوماً حتى يكون على قدر تلك المسؤولية العظيمة والكبيرة، إذ جاء فيها (يجب على الممارس الصحي أن يعمل على تنمية معلوماته وأن يتابع التطورات العلمية والاكتشافات الحديثة في مجال تخصصه ....)، كما أنه وإمعاناً في إحكام وضبط اضطلاع الممارس الصحي بمهنته حتى يبذل كل ما في وسعه للحفاظ على حياة المريض وبذل كل الجهد الممكن في ذلك، فقد أكدت المادة (26) من النظام ذاته على التزام الممارس الصحي ببذل عناية يقظة تتفق مع الأصول المتعارف عليها، وهذا الجانب يختلف عن بذل العناية الذي يؤطر عمل كافة المهنيين من محامين ومهندسين وغيرهم على سبيل المثال، إذ شدد النظام في الجانب المتعلق بعمل الطبيب أو الممارس الصحي وأخضعه للعناية اليقظة الكبيرة نظراً للآثار والعواقب الكبيرة التي تترتب على الأخطاء الطبية والتي يكون مكانها جسم الإنسان أو حياته.
إن العقوبات التي أوردها النظام والتي يجوز الحكم بها على كل من أخطأ طبياً وأدى إلى إزهاق روح إنسانية أو إحداث عاهات جسيمة بها تعد مخففة وغير رادعة، حيث يُعاقب المخطئ في هذا الجانب بالسجن مدة لا تتجاوز ستة أشهر وبغرامة لا تزيد على مائة ألف ريال أو بإحدى هاتين العقوبتين، وذلك بالنظر إلى الخطأ الطبي الذي يمس حياة الإنسان، كما أن طلب التعويض على النحو المنصوص عليه في المادة (27) من النظام السابق لا يسقط الحق في بعض الحالات من إقامة الدعوى الجزائية ضد الممارس الصحي. ونظراً لانتشار وكثرة وفداحة الأخطاء الطبية على الفرد وحياته، فإن هنالك عدة مقترحات في هذا الجانب أهمها:
أولاً: لقد حان الوقت لإقامة محاكم طبية متخصصة على غرار المحاكم التجارية والمرورية والإدارية، وذلك لتلبية النمو الهائل والكبير في القطاع الصحي والزيادة الكبيرة والمطردة في أعداد السكان، وما يقتضيه ذلك من زيادة في تقديم الخدمات الطبية ، فضلاً على تفعيل دور اللجنة الطبية الشرعية في وزارة الصحة وتمكينها من تحديد الأخطاء الطبية والمسؤولين عنها وفق نظرة محايدة في ضوء نصوص النظام من أجل توفير حماية للمريض وذويه من أي انتهاكات أو مخالفات طبية تضر بهم.
ثانياً: ضرورة أن تكون هنالك عقوبة جنائية إذا ما ثبت ليس التعمد فحسب في الأخطاء الطبية وإنما التقصير والإهمال وفقاً لتقدير المحكمة المختصة في هذا الخصوص، مع سحب رخصة ممارسة المهنة من الطبيب نهائياً أو لفترة محددة حسب فداحة الخطأ الطبي، أو إسناد أي عمل إداري إليه بعيداً عن الجانب الطبي أو العمل على إعادة تأهيله، فضلاً على تشديد الرقابة على المستشفيات ولا سيما الخاصة وقيام برامج لتأهيل وتطوير الكفاءات الطبية التي تعنى بالمرضى.
ثالثاً: العمل على رفع العقوبة المنصوص عليها في المادة (28) من النظام المشار إليها لتصل في حدها الأعلى لعشر سنوات مع تشديد الغرامة التي يجوز بها الحكم أيضاً، وذلك في حال ثبوت الإهمال أو التقصير، إلى جانب أن مبلغ التعويض الذي يحكم به لصالح المتضرر وذويه طبقاً للواقع العملي ضئيل جداً بالنظر إلى النتائج الكارثية المدمرة المترتبة على الخطأ الطبي، ولا سما إذا ارتبط الأمر بوفاة أحد الأفراد أو فقدان عضو أدى إلى إعاقة كاملة أو جزئية، وفي مثل هذه الحالات لا بد من إعادة النظر في مقدار التعويض وزيادته في ظل الآثار التي تترتب على المريض وذويه وفي ظل الواقع الاقتصادي المتعاظم نتيجة لزيادة حجم التضخم المستمر، وبحيث يكون مبلغ التعويض المحكوم به جابراً للضررين المادي والمعنوي، مع ضرورة إبقاء سقف التعويض مفتوحاً من دون تحديد طبقاً لما تقرره المحكمة المختصة في هذا الجانب وفقاً للحالة وذلك بعد الاستعانة بأشخاص وجهات مؤهلة وقادرة على تحديد حجم وفداحة الخطأ الطبي، مع إلزام الأطباء والمستشفيات بالقيام بعملية التأمين لهم عن الأخطاء الطبية التي قد تحدث.
إن العمل الطبي هو في جوهره دور وواجب يتسق في أدائه مع القواعد والأصول المرعية والمتبعة في علم الطب، ولا بد من الفهم أنه ليس كل أداء طبي لا يحقق أهدافه هو بالضرورة مؤشر لوجود خطأ طبي، إذ ربما قد تكون هناك أسباب أخرى تقف خلف وفاة أو إعاقة المريض ، فالخطأ الطبي ليس دائماً مصدره الطبيب، ويجب أن يكون تناول موضوع الأخطاء الطبية منصباً في البحث عن وضع الحلول القانونية التي تمكن الطبيب من أداء مهنته بجدارة من جهة وتحافظ على حياة المريض الغالية من الجهة الأخرى.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي