أزمة الديون.. تكاليف التقاعس ستكون باهظة
هل تتمكن منطقة اليورو من تجنب الانزلاق إلى الهاوية؟ قد يكون هذا الاحتمال وارداً لأن الخطوط العريضة الناشئة للإطار الجديد المقترح لحل أزمة الديون السيادية المستمرة تشتمل على عنصر رئيسي كان مفقوداً حتى الآن. والواقع أن غياب هذا العنصر كان وراء انتشار الأزمة المالية هذا الصيف، والتي تجاوزت حدود الدول الطرفية الصغيرة مثل اليونان وإيرلندا والبرتغال لكي تضرب دولاً ذات أهمية نظامية مثل إيطاليا وإسبانيا.
والواقع أن نقطة انطلاق العدوى كانت عندما أدرك المستثمرون أن مؤسسات مثل صندوق إنقاذ أوروبا ومرفق الاستقرار المالي الأوروبي كانت مصممة لتقديم الدعم المالي الطارئ للبلدان الطرفية فحسب. فهي ببساطة لا تملك ـ ولن تتمكن أبداً من امتلاك ـ الأموال الكافية لتولي عملية شراء السندات الهائلة المطلوبة لتثبيت استقرار أسواق الدين في الاقتصادات الكبيرة مثل إسبانيا وإيطاليا. فمرفق الاستقرار المالي الأوروبي لن يجد تحت تصرفه سوى 440 مليار يورو على الأكثر ـ فأي زيادة من شأنها أن تهدد تصنيف فرنسا (أأأ) ـ في حين يتجاوز مجموع الديون العامة الإيطالية والإسبانية 2 تريليون يورو.
في أوائل آب (أغسطس) بدأ تأثير الدومينو الناتج عن أزمة الديون السيادية في البلدان الواقعة على أطراف منطقة اليورو، وذلك لأن الأسواق المالية لا تنتظر تخفيض تصنيف دولة تلو الأخرى. بل إنها تميل عوضاً عن ذلك إلى استباق لعبة النهاية، أو على الأقل أحد السيناريوهات المحتملة ـ تفكك بنية احتواء الأزمة بالكامل على وجه التحديد.
فقد لاحظت الأسواق أن اليورو بدا عالقاً بين المطرقة (قدرة الاقتراض المحدودة لدى مرفق الاستقرار المالي الأوروبي) والسندان (عزوف البنك المركزي الأوروبي التام عن التورط في عمليات شراء واسعة النطاق لسندات الحكومات المتعثرة ماليا). ثم تبين في وقت لاحق أن البنك المركزي الأوروبي لم يكن بهذه الشدة، رغم تأكيده أنه سيوقف التدخل بمجرد تشغيل مرفق الاستقرار المالي الأوروبي الجديد. ونظراً لمحدودية قدرة مرفق الاستقرار المالي الأوروبي، فإن الأسواق كانت لتُترَك من دون أي دعم.
والمشكلة عموماً تكمن في احتياج السلطات المالية في منطقة اليورو إلى دعم السيولة. ففي أي اقتصاد ''طبيعي'' لديه عملته الخاصة، من غير الممكن على الإطلاق أن تواجه السلطات المالية نقصاً في السيولة، وذلك لأن الحكومات يمكنها دوماً أن تعتمد على الدعم من البنك المركزي. وعلى النقيض من ذلك فإن أي حكومة في منطقة اليورو تجد نفسها دوماً في وضع غير مستقر: فهي تمتلك أصولاً طويلة الأجل فقط (سلطة فرض الضرائب) والتزامات قصيرة الأمد، أو على وجه التحديد الديون الحكومية، التي يتم ترحيل جزء كبير منها سنويا. وإذا رفض المستثمرون شراء الديون بأية شروط، فقد تجد حتى الحكومات المنضبطة ماليا نفسها في أزمة سيولة فتصبح عاجزة عن سداد ديونها.
وعلى نحو مماثل تتحمل البنوك التزامات قصيرة الأمد (الودائع) وتمتلك أصولاً طويلة الأجل، وهي الأصول التي لا يمكن تسييلها بسرعة من دون تكبد خسائر فادحة. ولهذا السبب تسارع كل البلدان إلى توفير دعم السيولة في حالات الطوارئ عندما تتحقق مخاوف هروب الأموال من البنوك، كما حدث على نطاق عالمي عندما انهارت الثقة بالقطاع المصرفي مع انهيار ليمان براذرز في عام 2008.
وعلى نحو مماثل، تحتاج منطقة اليورو إلى آلية لمواجهة التكالب على استرداد ديون حكومات البلدان الأعضاء. وهذا يتطلب قدرة السلطات المالية على الوصول إلى صندوق مشترك ضخم من السيولة في حالات الطوارئ. ولا يستطيع غير البنك المركزي الأوروبي توفير هذه الضمانة.
والخبر السار هنا هو أن الحل بدأ الآن ببطء في اتخاذ هيئته النهائية التي تَعِد بإنشاء آلية تسمح للبنك المركزي الأوروبي بمساندة مرفق الاستقرار المالي الأوروبي. ومن الممكن أن يتحقق هذا ببساطة من خلال تسجيل مرفق الاستقرار المالي الأوروبي باعتباره بنكا، وهو ما من شأنه أن يمنحه القدرة على الوصول إلى عمليات إعادة التمويل الطبيعية التي يقوم بها البنك المركزي الأوروبي بنفس الشروط التي يفرضها على البنوك الطبيعية الأخرى. ثم يصبح بوسع مرفق الاستقرار المالي الأوروبي آنئذ تنفيذ عمليات شراء بالغة الضخامة للديون الحكومية برفع رأسماله المحدود من خلال إعادة التمويل من جانب البنك المركزي الأوروبي، واستخدام السندات الحكومية التي يشتريها كضمان.
وبهذه الطريقة يصبح من الممكن إنشاء التقسيم الملائم للعمل، فيتولى مرفق الاستقرار المالي الأوروبي المسؤولية عن التعامل مع الأزمات المالية في البلدان الأعضاء. وبالنسبة للدول التي تعاني مشكلات متعلقة بالسيولة فإن برامج التكيف والتعديل كتلك المخصصة لليونان أو إيرلندا أو البرتغال ستكون مناسبة. ولكن بالنسبة للدول الكبيرة التي تواجه نقصاً في السيولة، فبوسع مرفق الاستقرار المالي الأوروبي أن يعتمد على الدعم من البنك المركزي الأوروبي.
وإذا أدرك المستثمرون أن نقص السيولة لم يعد بالأمر المحتمل، فسوف يمتنعون عن شن هجمات المضاربة على الدول القادرة على سداد ديونها. والواقع أن حالة شبه الذعر التي اجتاحت الأسواق المالية انحسرت بمجرد انتشار الشائعات بأن هذا الحل نوقش على الأقل خلف الأبواب المغلقة. والآن لا بد أن يبدأ التنفيذ.
وكما هي الحال دوماً في أوروبا، هناك عقبات قانونية وسياسية لا بد من تذليلها. ولكن حتى أكثر صانعي القرار السياسي تردداً يدركون أن تكاليف التقاعس عن العمل سوف تكون باهظة. والواقع أن العقبات القانونية التي تحول دون ''التمويل النقدي'' المحتمل للقطاع العام في إطار المعاهدات الحاكمة للاتحاد الأوروبي يمكن تذليلها والتغلب عليها. وتتلخص العقبة الأكثر أهمية في عزوف ألمانيا عن الاعتراف علناً بأن دعم السيولة الذي يوفره البنك المركزي الأوروبي لأسواق الديون الحكومية قد يشكل عاملاً حاسماً في الحفاظ على الاستقرار المالي.
لن يتسنى لأي جهة غير الحكومة الألمانية والبنك المركزي الأوروبي فتح الباب أمام هذا الإصلاح العميق للدعائم الأساسية التي يقوم عليها اليورو. وهو اختيار لم يعد بإمكانهما تأجيله بعد الآن.
خاص بـ «الاقتصادية»
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2011.