المقايضة الإسرائيلية - الفلسطينية.. الدقة في التوقيت

أخيرًا تنفس ''الإسرائيليون'' الصُعَداء، واستعادوا أسيرهم جلعاد شاليط، بعد ما يقرب من خمس سنوات من حادثة الأسر. وما يكسب الموضوع أهميته بالنسبة للصهاينة، هو الفشل الذريع الذي وجهت به المحاولات الإسرائيلية العديدة، العسكرية والاستخباراتية لاستعادة شاليط بالقوة. لقد عقدت حركة حماس التي قامت بعملية الأسر، صفقة مع الإسرائيليين، تضمنت مقايضة شاليط بالإفراج عن 1027 أسيرًا فلسطينيًا، يقبعون منذ فترة طويلة في سجون الاحتلال، من بينهم 315 سجينًا محكومين بالمؤبد.
لقد كان الإعلان عن الصفقة مبعث ارتياح بالغ من الفلسطينيين والعرب، الذين وجدوا فيها انتصارًا للمقاومة وللإرادة الفلسطينية، مقابل التعنت والعنجهية الإسرائيلية. فخلال السنوات التي مضت بعد حادثة الأسر، أثبتت حماس، قدرة استثنائية على المناورة وخداع الإسرائيليين، الذين عملوا جل ما في وسعهم لكشف مكان وجوده. وفي سبيل ذلك، قاموا بحرب وحشية على قطاع غزة واعتقلوا العشرات من قادة حركة حماس، ومن أعضاء المجلس التشريعي الفلسطيني، واستعانوا بخبرات استخبارية أمريكية وأوروبية للمساعدة في مكان وجود الأسير الإسرائيلي، دون جدوى. ولذلك يحق للفلسطينيين، وللإخوة في حركة حماس أن يفخروا بإنجازهم، على كل الصعد.
لكن جَوَّ الابتهاج والفرحة لم يُغيِّب السؤال، عن أسباب تراجع حركة حماس عن قائمتها السابقة، التي تضمنت أسماء أسرى من القادة الفلسطينيين، كالقائد الفتحاوي البارز، مروان البرغوثي وأمين عام الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، أحمد سعدات. لقد أدى ذلك إلى اعتبار الصفقة إنجازًا منقوصًا، وتراجعًا عن الوعود التي قطعتها حماس على نفسها بعدم الإفراج عن جلعاد ما لم تتضمن الصفقة الإفراج عن جميع القادة الفلسطينيين القابعين في سجون الاحتلال الإسرائيلي.
في هذا السياق أيضًا، يطرح السؤال عن دوافع توقيت هذه الصفقة. وفي هذا الصدد، لا مندوحة من التأكيد على أنه في ظل انعدام التكافؤ في موازين القوة، فإن أي صفقة تعقد بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ستكون مبنية على جملة من المساومات والتنازلات. وفي هذه الصفقة لم تكن القوى متكافئة بين حركة حماس والحكومة الإسرائيلية، من جهات مختلفة. فالأسرى الفلسطينيون القابعون في سجون الاحتلال، يتجاوز عددهم السبعة آلاف شخص، بينما يبقى شاليط الأسير الإسرائيلي الوحيد الذي يحتفظ به الفلسطينيون. بمعنى أن الإفراج عن العدد الذي ذكر من الأسرى الفلسطينيين، لن يؤثر في نهاية المطاف على قوة الأوراق التي يملكها الإسرائيليون في مواجهة حماس. أما حماس فإنها بتسليم الأسير شاليط للمفاوض الإسرائيلي، تكون قد تخلت عن الأسير الوحيد الذي بحوزتها، ولم يتبق لديها ما تقايض عليه في أي صفقة مستقبلية، إلا إذا تمكنت من القيام بعملية أسر مماثلة.
يضاف إلى ذلك، أن إسرائيل هي قوة احتلال، وجيشها يعربد دون رادع، يمنة ويسرة على امتداد الأراضي الفلسطينية المحتلة، واعتقال الفلسطينيين لا يمثل مشكلة بالنسبة للكيان الغاصب. وقد حدثت في الماضي صفقات مماثلة، سرعان ما التف عليها الإسرائيليون، باعتقال المزيد من قادة حركة المقاومة. ويدرك الإسرائيليون والفلسطينيون على السواء، أن إطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين لن يكون نهاية المطاف. بمعنى أن بإمكان الإسرائيليين استبدال الأسرى الذين سيفرج عنهم، بموجب هذه الصفقة، بسهولة وفي فترة قصيرة، بقادة فلسطينيين آخرين، لم تتناولهم قبضة الاحتلال بعد. هذا الأمر، لا يوجد ما يماثله بالنسبة للمقاومين الفلسطينيين. وإذا ما تمكنوا من تحقيق شيء مثله، كما حدث في أسر جلعيد شاليط، فإن الأثمان التي يدفعونها باهظة جدًا. ولا تزال الذاكرة تحتفظ بمجريات أحداث الهجوم على قطاع غزة عام 2009م، والجرائم الوحشية التي ارتكبتها قوات الاحتلال الصهيوني بحق القطاع، والحصار الجائر الذي فرض على القطاع طيلة السنوات الماضية.
أخذًا بهذه الحقائق، يواجهنا السؤال الذي حمله عنوان هذا الحديث عن أسباب اختيار هذا الوقت لعقد الصفقة الفلسطينية - الإسرائيلية. والجواب متعلق بعوامل موضوعية تخدم طرفا الصراع.
فإسرائيل تواجه معضلات عدة، في مقدمتها التعاطف الدولي الذي حظيت مطالبة السلطة الفلسطينية الجمعية العمومية للأمم المتحدة بالاعتراف بالدولة الفلسطينية. لقد وافقت الأسرة الدولية على المقترح الفلسطيني، وتمت التوصية بعرضه على مجلس الأمن الدولي، للاعتراف رسميًا بالدولة الفلسطينية، ورغم أن إدارة الرئيس الأمريكي أوباما هددت باستخدام حق النقض لمنع صدور أي قرار من مجلس الأمن في صالح الطلب الفلسطيني، فإن الأبعاد الأخلاقية تحققت في موافقة الجمعية العمومية للأمم المتحدة على المقترح الفلسطيني.
هناك أيضًا الموقف الدولي الغاضب، تجاه قرار نتنياهو بناء مستوطنة إسرائيلية جديدة تضم 1700 وحدة سكنية، في القدس الشرقية، التي هي من وجهة نظر القانون الدولي أراض محتلة.
إن صفقة إطلاق شاليط، تسهم في تخفيف حدة الموقف الدولي تجاه سياسات نتنياهو، وتلطف الأجواء من حوله، وتصرف أنظار العالم عن الاعتراض عن استكمال بناء المستوطنة الصهيونية شرق القدس.
يضاف إلى ذلك أن صفقة إطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين، ستحد من حركة الاحتجاجات والمطالبات الفلسطينية، التي عمت معظم المدن الفلسطينية، مطالبة بالإفراج عن الأسرى، ومهددة باندلاع انتفاضة فلسطينية ثالثة، في وجه الاحتلال الصهيوني، في وقت تنوء فيه أجهزة هذا الكيان الأمنية بحركة احتجاجات واسعة في معظم مدن فلسطين 48، مطالبة بمعالجة الأزمة الاقتصادية الحادة والقضاء على البطالة.
ويمكن الإشارة إلى جملة من الأسباب، أدت مجتمعة إلى قبول حماس بصفقة تبادل الأسرى مع الإسرائيليين. وفي مقدمتها رغبتها في إقناع ''المجتمع الدولي'' بجنوحها عن سياسة العنف، ورفع تهمة الإرهاب عن نفسها، تمهيدًا لقبولها كطرف فاعل في أي محادثات جدية للتوصل إلى تسوية سلمية مع العدو الصهيوني، وبما يسهم أيضًا في رفع الحصار المفروض على قطاع غزة.
في هذا السياق، تحضر المبادرة المصرية، الهادفة لتحقيق الوحدة الوطنية الفلسطينية. إن هناك خشية من أن تتعثر محاولة تحقيق المصالحة بين الفلسطينيين، بسبب اعتراض الولايات المتحدة الأمريكية ودول الاتحاد الأوروبي والكيان الغاصب على مبادرة كهذه، ما دامت حماس طرفًا فيها. تحاول حركة حماس عن طريق قبول الصفقة مع الصهاينة، البروز بالمظهر ''الواقعي''، الذي يمكن أن يكون مفاوضًا مقبولًا من مختلف الغرماء في أي عملية سلمية مستقبلية.
إلى جانب ذلك، يجري الحديث أخيرًا، عن تصاعد شعبية رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس في أوساط الفلسطينيين، إثر إلقائه لخطابه التاريخي، أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، الذي طالب فيه المجتمع الدولي، بالاعتراف بالدولة الفلسطينية المستقلة. إن إقدام حماس على عقد الصفقة التي أقرت الإفراج عن أسرى من مختلف منظمات المقاومة الفلسطينية، يعيد إليها بعض الكرامة التي فقدتها، بسبب تصاعد شعبية الرئيس الفلسطيني أخيرًا.
هناك أيضًا عامل آخر يذكر في هذا السياق، هو أن حركة حماس خسرت بانهيار نظام العقيد القذافي في ليبيا طرفًا مساندًا. وقد برز حلفاؤها من الإخوان المسلمين في ليبيا، حلفاء أيضًا لحلف الناتو، الذي استمر قصفه للمدن الليبية طيلة الستة أشهر المنصرمة. كما أن أوضاع الاحتجاجات في سورية التي يلعب فيها الإخوان المسلمون دورًا مركزيًا، تشكل إحراجًا لحماس الخارج، التي تتخذ من دمشق مركزًا رئيسًا لها. إنها تحاول التعويض عن ذلك بتأكيد التزامها بالدفاع عن المعتقلين الفلسطينيين ومواصلة التزامها بنهجها المقاوم من جهة، والتلويح بقدرتها على مغادرة استراتيجياتها السابقة من جهة أخرى. ولعل الصورة الأوضح في هذا الاتجاه، هي تحالف حماس مع حكومة رجب طيب أردوغان التركية، التي تتصدر مواجهة دمشق في حركة الاحتجاجات الأخيرة.
وتبقى المناقشة مفتوحة على أسباب وعوامل أخرى، لعل أهمها ما يجري الآن من أحداث دراماتيكية وعاصفة، تحت مسمى الربيع العربي في عدد من البلدان العربية، من شأنها أن تقلب كل المعادلات السابقة، وتعيد ترتيب وتركيب الأحداث في المنطقة بأسرها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي