النفايات البلدية.. الثروة المهدرة
لا ينكر أحدٌ كم التطور الذي تشهده مدننا السعودية، على وجه العموم، ومدينة الرياض على وجه الخصوص، وهي المدينة التي حظيت بمنظومة من المؤسسات المحترفة التي تقوم على إدارتها وتنميتها، وعلى رأسها أمانة منطقة الرياض، والهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض. ولكن كل هذا التطور وتلك المشروعات التي تشهدها هذه المدينة خاصة عجزت عن إيجاد حلول جذرية لمشكلة تسبّبت على الدوام في تشويه صورة شوارع المدينة وأحيائها، ألا وهي مشكلة النفايات البلدية. والحقيقة أن هذه المشكلة لا تتعلق فقط بالآثار السلبية على صورة المدينة ومستوى حياة سكانها، ولكنها تعد بحق إحدى أفدح صور الهدر في الموارد التي لم يلق أحدٌ لها بالاً حتى الآن على الرغم من كل الإمكانات الاقتصادية والاستثمارية التي تحملها، وعلى الرغم من كل التجارب العالمية التي سبقتنا في هذا المضمار.
أبدأ حديثي بإلقاء نظرة على واقع إدارة النفايات البلدية في مدينة الرياض كحالة تحاكيها في مجمل أركانها كل المدن السعودية. أول عناصر هذا الواقع وأبشعها تلك الصناديق التي تنتشر على جنبات الطرق الرئيسة وفي داخل الأحياء، وهي صناديق بالية مشوّهة كثيراً ما تزاحم السيارات في المواقف، أو تعترضها في وسط الطريق، تسكنها القطط وربما أنواع أخرى من الحيوانات والقوارض، وتفيض بمحتوياتها من النفايات من جرّاء تأخر تفريغها. أجزم أنه لا يختلف اثنان على رفض هذا المشهد المقزز في شوارع المدينة وأحيائها، ولكنني أتحسر كثيراً في كل مرة أرى فيها تلك الصناديق وقد امتلأت بكثير من المواد التي كان من الممكن استخدامها واستثمارها بشكل أفضل. العنصر الثاني الذي لا يقل بشاعة عن الأول هو سيارات النفايات التي تجوب الأحياء لتفريغ الصناديق من محتوياتها، وهي ليست إلا صندوقاً ضخماً متنقلاً من تلك الصناديق يجوب الطرق والأحياء لينشر الروائح الكريهة والمشاهد المقرفة. أما العنصر الثالث الذي لا يراه عامة الناس فهو مكبات النفايات التي تعد بحق فضيحة بيئية بكل المقاييس، مع العلم أن المملكة هي إحدى الدول الموقعة على اتفاقية كيوتو، التي تمنع ردم النفايات ودفنها بسبب ما تنتجه من أبخرة ضارة بالصحة والبيئة. المشكلة أن الواقع الحالي يجر على مدننا ونمط حياتنا كثيراً من المشاكل والتبعات، ومنها - على سبيل المثال - المشاكل الناتجة عن خروج خادمات المنازل لوضع النفايات في الصناديق وما يتبع ذلك من مشكلات اجتماعية يعانيها الكثيرون، وصور أخرى كثيرة من مثل هذه المشكلات التي ليست إلا نزراً يسيراً من حجم الثمن الفادح الذي يدفعه المجتمع من هذا النمط الرجعي لإدارة النفايات البلدية. وأنا أتساءل كثيراً عن السبب الذي يمنع الأمانات والبلديات في المملكة من اعتماد مبادرة بسيطة تلزم أصحاب المنازل بوضع غرف للنفايات في أسوار منازلهم يتم فتحها من داخل المنزل لوضع النفايات بها ومن ثم تفتح من الخارج من قبل عمال جمع النفايات لنقلها إلى سياراتهم بشكل منظم. أليس هذا حلاً بسيطاً يسهم في تحسين نمط التعامل مع هذه القضية؟
انتهى المشهد، ثلاثة عناصر فقط هي كل ما تضمه منظومة إدارة النفايات في المملكة، وهو ما يعبّر بجلاء عن تواضع النظرة الرسمية والمهنية في التعاطي مع هذه القضية. ومنظومة إدارة النفايات في المملكة لا تضم أي وسائل لتصنيف النفايات وفرزها بحسب نوعياتها وإمكانات إعادة استخدامها، ولا تضم أي معامل أو مصانع تستقبل هذه النفايات ''المفروزة'' مسبقاً لتدخلها في دورة إعادة التدوير والاستخدام، ولا تضم حتى أي محاولة لبيع هذه النفايات إلى مَن يمكن أن يستفيد منها في دورة إنتاجية مكتملة. هذه العناصر التي أتحدث عنها هي عناصر أساسية في دورة إدارة النفايات البلدية في الكثير من الدول، بما فيها بعض الدول المجاورة التي نعدها متأخرة في ركب التطور ومسيرة التنمية. حتى العناصر المحدودة التي تتم بها إدارة النفايات في المملكة تعاني تدني المستوى وتدهور الأداء، ناهيك عن هدر الموارد، وهو ما يُدمي القلب في هذه القضية، خاصة عندما نقرأ عن ترسية عقود نظافة المدن بمئات الملايين من الريالات، والتي أعدها هدراً بواحاً لمقدرات الوطن، ليس فقط نتيجة صرف هذه الملايين مقابل أداء متردي المستوى في نظافة المدن، ولكن عبر تفويت فرص هائلة في استثمار تلك النفايات في منظومة متكاملة ممنهجة محترفة تشمل عمليات الجمع والفرز والنقل والتدوير. أنا أعلم شخصياً عن شركات عالمية عديدة قدمت مقترحات وعروضاً لبعض أمانات المدن في المملكة لتولي منظومة إدارة النفايات وإراحة الأمانات من صرف كل تلك الملايين مقابل امتياز استغلال تلك النفايات وتدويرها، ولكنها لم تجد منها أذنا صاغية. فهل أن تلك الشركات من الغفلة حتى تتحمّل كل تلك التكاليف التي تنفقها الأمانات لجمع النفايات دون أن تجد فيها ثروة مهدرة وفرصة استثمارية سانحة؟
الجانب الأخير الذي أود الحديث عنه هو غياب دور التعليم في هذه القضية، فمناهج التعليم لا تكاد أن تتحدث عنها إلا من منطلق أن النظافة من الإيمان، ولا تتضمن أي محتوى يغرس في النشء مفاهيم التعامل مع النفايات وإدارتها وقيمتها المادية. أنا شخصياً لم أسمع عن مدرسة واحدة في كل المملكة بطولها وعرضها بادرت بوضع حاويات مصنفة للنفايات؛ لتُعلِّم الطلاب مبادئ الفرز والفصل بين أنواعها المختلفة وما يتلوه من وسائل مختلفة لاستخدامها وتدويرها والاستفادة منها. وأنا أتحدث كثيراً عن التعليم؛ لا لأحمّله المسؤولية عن المشاكل التي نعانيها، بل لأنني أؤمن بأن تحسين نمط حياتنا وحل كل مشاكلنا يأتي عبر الاستثمار في تعليم متطوّر ينشأ به جيلٌ جديدٌ أكثر فهماً وقدرة على حل مشاكل مجتمعه من هذا الجيل الذي تعوّد أن يبقى على الدوام متفرجاً دون مبادرة.