رأس المال الجريء ينتظر مبادرة البنوك
قبل أربع سنوات وفي لقاء تعريفي بريادة الأعمال سألني مسؤول كبير في شركة كبرى عن معنى رأس المال الجريء (Venture Capital)، وعندما شرعت في الإجابة عن سؤاله، بادر أحد مساعديه الذي يرأس شركة تابعة لتلك الشركة بالقول إنه ''الممول بكل بساطة''. أدركت حينها كم نحن بحاجة إلى وقت طويل كي نعي هذا المفهوم فضلاً عن تبنيه في مجتمعنا المحلي. واليوم وخلال شهرين قريبين تبادر شركتان سعوديتان كبيرتان هما شركة أرامكو العملاقة وشركة الاتصالات السعودية الضخمة بالدخول في عالم رأس المال الجريء.
رأس المال الجريء الذي يسمى أحيانا رأس المال المغامر أو المخاطر هو ببساطة تمويل بالمشاركة لمرحلة إنشاء مشروع مبتدئ ذي إمكانية نمو عالية. وهو عبارة عن أسلوب حديث لتمويل المشاريع الاستثمارية بواسطة شركات تدعى بشركات رأس المال المغامر. وهي لا تقدم التمويل المالي فحسب كما هو الحال في تمويل البنوك بل تقوم على مبدأ المشاركة، حيث يقوم المشارك بتمويل المشروع بجزء من رأس المال يراوح عادة ما بين 10 إلى 30 في المائة دون ضمان العائد ولا مبلغه، وبذلك فهو يخاطر بأمواله ولا يضمن عوائده. وهو مجال مهم لمساعدة المشروعات الصغيرة التي تواجه صعوبات التمويل، والتي يحجم معظم المصارف عن منحها القروض نظراً لعدم قدرتها على توفير الضمانات.
وكما هو معلوم عالمياً فإن توافر هذا النوع من التمويل يدفع بالاقتصاد الوطني إلى مزيد من التوسع وتنشيط الحركة الاقتصادية، ويساهم بجدية في خلق فرص العمل في الوطن. وكما أكد الباحثون فقد ازدهرت الثورات الصناعية، الإلكترونيات والمعلومات الدقيقة والتكنولوجيا الحديثة وغيرها من الصناعات ازدهارا مذهلا بفضل التمويل برأس المال المخاطر، حيث أضحت تلك المشروعات بعد سنوات قليلة مشروعات متوسطة ناجحة قفز أغلبها بعد ذلك إلى مصاف المشروعات الكبرى التي تغزو منتجاتها وخدماتها أسواق العالم كافة. والأمثلة على ذلك كثيرة، فهوت ميل، وفيس بوك، وأمازون دوت كوم، وأيفون للتجميل وشركة أبل الشهيرة، وكذلك شركة مايكروسوفت العملاقة وغيرها كثير قامت على رأس المال المخاطر.
وبحسب تقرير لمنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية OECD فإن رأس المال الجريء يساهم بما يزيد على 100 مليار دولار سنويا لتمويل المشروعات على مستوى العالم. وتنسب نشأة هذا الأسلوب في العصر الحديث للجنرال الفرنسي ''دوريو''، حيث أسس أول شركة متخصصة في رأس المال الجريء لتمويل شركات التقنية عام 1946. ومنذ ذلك الحين والتمويل برأس المال الجريء يتضاعف في أمريكا حتى أصبح يمثل ما يزيد على 50 في المائة من مجموع التمويل العالمي. وانتشر هذا الأسلوب بعد ذلك إلى دول أخرى أدركت الحاجة إلى دعم الأفكار الإبداعية والمشاريع الابتكارية، وفتح المجال للمشروعات الصغيرة والمتوسطة لبناء اقتصاد المعرفة. وكان من أبرز تلك الدول هونج كونج وفنلندا وتايوان التي تأتي بعد أمريكا على التوالي. ففي تايوان وحدها هناك أكثر من 250 شركة تمويل برأس المال الجريء بمبالغ تمويلية تزيد على خمسة مليارات دولار سنوياً بحسب إحصائية عام 2006. ويقول أحد علماء ريادة الأعمال ''إن الممولين المغامرين هم من كانوا وراء تجسيد مختلف الابتكارات التي عرفتها البشرية، ولولا هؤلاء المغامرين لما وصل التطور التقني اليوم إلى ما وصل إليه''.
وفي المقابل فإن رأس المال الجريء لا يزال في مهده في معظم الدول العربية. وتبرز ممارساته المؤسسية في الإمارات والبحرين والكويت على استحياء، ويكاد يكون نادراً في السعودية. فالمؤسسات المستثمرة في هذا المجال لا تكاد تذكر. وأرى أن من أهم المحاضن والجهات التي ينبغي أن تدلف هذا المجال هي البنوك التجارية المحلية. التي يجب أن تعتبر هذا التوجه ليس مجرد توجه استثماري مربح، بل مجالاً رشيداً للمساهمة المسؤولة في تنمية اقتصاد الوطن والمشاركة في بناء مؤسساته الابتكارية المنتجة.
وللحقيقة فإن البنوك مطالبة بالكثير لدعم الشباب المبادر. فنطمح أن توجد تلك البنوك عروضاً خاصة برواد الأعمال تفتح المجال للائتمان الريادي. وبمعنى آخر أي تقوم بتمويل كل من يريد أن يبدأ مشروعاً بائتمان بلا فائدة. كما نتمنى أن توجد عروض مخصصة للمنشآت الصغيرة لا ترتكز على برامج الإقراض بل على مفهوم المشاركة لتقليل المخاطرة. البنوك أيضاً تستطيع أن تقدم الخدمات الاستشارية المجانية الخاصة بدراسات السوق ودراسات الجدوى وتصميم خطط العمل لرواد الأعمال. البنوك المحلية يعول عليها أن تقوم بنشر ثقافة الاستثمار طويل الأجل كما نشرت يوماً ما الاستثمار العاجل في سوق الأسهم وقدمت التسهيلات الكبيرة للمضاربين.
والمنشآت والمشاريع الصغيرة التي تعتبر أحد الحلول المهمة لمواجهة البطالة يجب أن تكون محاضنها البنوك التجارية، أو أن تبرز البنوك كأحد أهم الجهات المساندة لها. فالبنوك في الدول المتقدمة في الغرب والشرق تقوم بترويج الفرص الاستثمارية الجديدة والإسهام فيها، وذلك من خلال إعداد دراسات الجدوى الاقتصادية والفنية والمالية للفرص الاستثمارية التي تنكشف أمامها، وأيضا الإعلان وبشكل منظم عن الفرص الاستثمارية ذات الجدوى وتسويقها لغرض تشجيع رواد الأعمال والمبادرين من الأفراد والشركات والمؤسسات للإقبال عليها وتنفيذها. والبنوك هناك لديها برامج وتسهيلات منظمة ومخصصة للمنشآت الصغيرة وإنمائها. هذا إضافة إلى مساهمتها الجادة في خلق المناخ الاستثماري الملائم للنشاط الاقتصادي في البلاد.
أما البنوك لدينا ففيما عدا برنامج كفالة الذي يرعاه صندوق التنمية الصناعي فقليل منها تلك التي تهتم بالمنشآت الصغيرة بشكل فاعل ومنظم ومستديم، وقليل منها تلك التي ترحب برواد الأعمال وتلتفت إليهم. وهي ماهرة جداً في تقويم المشاريع وتمحيص الفرص، وتتفاخر دوماً بالمتخصصين لديها في إدارة المخاطر والتحليل الائتماني، كما تتعالى بالدراية والمعرفة على كل من يتقدم لطلب تمويل لمشروعه الاستثماري. والأحرى بها أن تكون تلك البنوك سبّاقة للدخول في الاستثمارات الحقيقية الصغيرة وإعمال قدراتها المعرفية على أرض الواقع لا مجرد نقدها وتضييق الخناق عليها.
أتمنى أن تحتذي البنوك بشركتي أرامكو والاتصالات وتبادر بإنشاء صناديق رأس المال الجريء للمنشآت الصغيرة والمبتكرين من رواد الأعمال، فهناك مجالات عديدة ومتنوعة أخرى لقيام مشروعات صغيرة موجهة للشباب وقادرة على أن توفر كثيراً من فرص العمل، ولكنها في حاجة إلى شراكة واعية ومتخصصة تنبع من المسؤولية الاجتماعية للبنوك. تلك المسؤولية التي تخرج عن التبرع المباشر والمساعدات المالية والعينية للجهات الخيرية أو الإقراض المتواضع إلى مفهوم التنمية المستدامة والشراكة التعاونية في المخاطرة والاستثمار.