خدمات الإسكان.. خاتمة الحديث
أختم حديثي اليوم عن موضوع خدمات الإسكان الذي اعتبرته في بداية حديثي أزمة خفية في إطار قضية الإسكان، وذلك لأن هذا الموضوع لم يجد حتى الآن اهتماما كافيا به لا من أهل القطاع ولا من الجهات الحكومية التي تتولى مهام الإدارة والتشريع فيه، وهو ما أحدث كثيرا من الآثار الخفية على واقع مشكلة الإسكان في المملكة جراء الممارسات الخاطئة التي تتم في هذه الخدمات، والنقص الذي يشوبها في دورتها المتكاملة. وكنت قد قلت في مقالي السابق إن بعض هذه الخدمات يتم تقديمها في السوق السعودي بمستوى لا يرتقي إلى الاحترافية المطلوبة بما يحقق فعاليتها في عملية تملك المسكن، فيما يغيب البعض الآخر غيابا تاما عن هذا السوق. وإذ كنت قد تناولت في مقالي السابق الجزء الأول من هذه الخدمات، فإن حديثي اليوم سيتناول الجزء الثاني منها، وهي تلك التي تغيب عن هذا السوق، بالرغم من دورها الفاعل في اكتمال دورة الخدمات المرتبطة بعملية تملك المسكن.
تشمل الخدمات التي يمكن وضعها في هذا التصنيف خدمات الفحص الهندسي والتأمين والضمان ووساطة التمويل والمساندة القانونية، وكلها كما قلت تغيب غيابا كليا عن سوق خدمات الإسكان في المملكة، على الرغم من أنها تشكل عناصر مهمة في عملية تملك المسكن، خاصة في سوق سيطر عليه طوال السنوات الأربعين الماضية نمط التطوير الفردي الذي أنتج مخزونا من الوحدات السكنية التي تعاني من تدهور ملموس في الجودة والتوثيق لعناصر البناء ومكوناته ومعلوماته الفنية والهندسية. فالفحص الهندسي أولا يمثل وسيلة مهمة لتحديد حالة المبنى وتسجيل ما يشوبه من مشاكل هندسية يمكن أن تكون سببا في التأثير على قيمته المادية. وفي كثير من الدول الأخرى تتضمن عملية بيع المسكن تسليم وثائق هندسية متكاملة للمبنى إلى المشتري، وتتضمن هذه الوثائق مخططات التنفيذ الفعلي وبيانات الموردين ومستندات الضمان لعناصر الإنشاء. أما في سوقنا فإن هذه الوثائق لا تتوفر في الغالب، وحتى إن توفر بعضها فإنها لا توثق حالة التنفيذ الفعلي لعملية البناء التي غالبا ما تشهد كثيرا من التغيير والتحوير أثناء إنشاء المبنى. إن غياب هذه المعلومات الموثقة عن المباني السكنية، وهذا الغياب لخدمات الفحص الهندسي لها هو ما يجعل عملية التثمين تتم بهذه الجزافية التي تغفل القيمة الحقيقية للمنشآت، وتستند إلى البيوع السابقة في منطقة المسكن المراد بيعه. هذا الواقع يتطلب انخراط المكاتب الهندسية في تقديم هذه الخدمات، واعتبارها متطلبا أساسيا من متطلبات تثمين المساكن لأغراض البيع والتملك، بما يحقق الأمان للمشترين الغافلين وجهات التمويل على حد سواء.
وفي ظل هذا الواقع الذي يشوب حالة المنشآت السكنية في المملكة تبرز الحاجة إلى خدمات التأمين لتسهم في زيادة عنصر الأمان لأطراف عملية شراء المسكن. وأنا هنا لا أتحدث فقط عن التأمين على المساكن، بل على مجمل المخاطر المرتبطة بهذه العملية. أذكر أن إحدى الدراسات كانت قد أثبتت أن النسبة العظمى من حالات التعثر في السداد من قبل المشترين ببرامج التمويل العقاري تنتج عن مؤثرات وقتية الطابع قصيرة المدى، ومنها على سبيل المثال انتقال المشتري من وظيفة إلى أخرى، أو بروز احتياجات مادية طارئة، أو التعرض لحالات مرضية مؤقتة، وغير ذلك من الحالات التي تؤدي إلى عجز مؤقت عن الانتظام في السداد. وفي الوقت الراهن، فإن جهات التمويل لا تنظر إلى مثل هذه الظروف بعين الاعتبار، وتتعامل بشكل فوري مع حالات التعثر فور وقوعها، وتتخذ حيالها الإجراءات التي تنص عليها عقود التمويل بمصادرة المسكن وإخلائه من ساكنيه وعرضه للبيع لسداد قيمة التمويل، ناهيك عن إدراج اسم المشتري المتعثر في قوائم شركة المعلومات الائتمانية. وأتساءل هنا: لماذا لا يتم تصميم حلول تأمينية تعالج مثل هذه الحالات من التعثر المؤقت، تقوم من خلالها شركات التأمين بتغطية أقساط التمويل لصالح جهات التمويل خلال فترة محددة لا تتجاوز الستة أشهر، حتى يتمكن المشتري من تجاوز ظروفه العابرة، ومعاودة الانتظام في السداد. إن ما سقته هنا ليس إلا مثالا وحيدا من أمثلة عديدة لمخاطر يمكن أن يسهم التأمين في معالجتها وتوفير عنصر الأمان لأطراف عملية تملك المسكن، وهو ما سينعكس إيجابا على تكاليف التمويل وقيمة الشراء الكلية. أحد الأمثلة الأخرى أيضا هو تطبيق التأمين على الخدمات الهندسية بما يمكن المكاتب الهندسية من تفعيل دورها في عمليات الفحص الهندسي، وتقديم ضمانات لجهات التمويل عن صحة تقاريرها الفنية حول حالة المسكن تضمن تعويضها عما يمكن أن يصيبها من عيوب فنية أو تهدم جزئي أو كلي. هذا الواقع يتطلب مبادرة حقيقية من شركات التأمين وقبلها مؤسسة النقد العربي السعودي لتقديم حلول تأمينية مبدعة تسهم في تأمين المخاطر المختلفة المرتبطة بعملية شراء المسكن، وتتيح لهذه الشركات مصادر جديدة للدخل بخلاف عمليات التأمين التقليدية التي تشهد منافسة حادة بين الشركات القائمة في هذا السوق.
إحدى الخدمات التي تغيب عن هذا السوق أيضا هي خدمات وساطة التمويل. وفي الوقت الراهن، فإن على المشتري الذي يرغب في الحصول على تمويل لشراء مسكن أن يطرق أبواب البنوك وشركات التمويل، ويقارن العروض التمويلية المقدمة من كل منها وفق قدراته ومعلوماته الذاتية. ووسيط التمويل يمكن أن يقوم بدور المستشار الذي يقوم بدراسة حالة المشتري والتعرف على قدراته وموارده المالية، وتحديد التزاماته الثابتة والطارئة، والاستقصاء عن حالات التعثر والقصور الائتماني الذي قد يعاني منه المشتري، ومن ثم تصميم وصياغة الحلول التمويلية الملائمة، وتسنيدها بالحلول التأمينية اللازمة التي تسهم في تقليل المخاطر على جهات التمويل، ومن ثم تقليل تكاليف التمويل المحملة على المشتري. مثل هذه الخدمات يمكن أن تسهم إسهاما فاعلا في توفير حلول تمويلية ميسرة لراغبي التملك، خاصة إن هي ابتعدت عن العمولات المرتبطة بقيمة التمويل تحقيقا لمبدأ البعد عن تعارض المصالح.
النموذج الأخير لهذه الخدمات هو ما يتعلق بالمساندة القانونية في كل مراحل عملية شراء المسكن، التي يمكن أن تسهم في تحقيق الأمان لأطراف العملية وحماية المشتري على وجه الخصوص من سطوة جهات التمويل التي تقوم بصياغة عقود التمويل بتحيز مطلق يحمي مصالحها ويضع المشتري في حالة من الإذعان الطوعي. كما أن هذه الخدمات يمكن أن تحمي المشتري من مخاطر الخلل في وثائق الملكية، خاصة في ظل تأخر تطبيق التسجيل العيني العقاري، وما نسمع عنه كثيرا من أخطاء في صكوك الملكية، وذلك عبر فحص مثل هذه الوثائق والتأكد من خلوها من أية شوائب يمكن أن تعود على المشتري وجهة التمويل بكثير من الضرر.
خلاصة القول، خدمات الإسكان يمكن أن تسهم إسهاما فاعلا في تطوير وتحسين مناخ سوق الإسكان وتقليل الهدر الناشئ عن المخاطر المرتبطة بمختلف مكونات ومراحل عملية تملك المسكن. كما أنها يمكن أن تخلق قنوات جديدة في البنية الاقتصادية للسوق، ويمكن أن تسهم في خلق وظائف بأرقام جيدة تسهم في تقليل معدلات البطالة في المملكة. وتقديم هذه الخدمات في السوق السعودي يتطلب مبادرات مبدعة وتنظيما فاعلا لهيكل السوق، وهو ما يمكن أن تتبناه وزارة الإسكان بصفتها الجهة المسؤولة عن إدارة هذا القطاع.