أغلقوا كليات الهندسة
الخبر الذي استفزني ودفعني لكتابة هذا المقال وتحت هذا العنوان اليائس هو خبر تصريح أمين محافظة جدة، الذي أعلن فيه قبل نحو أسبوعين أن الأمانة ستقوم بالتعاقد مع مكاتب استشارية عالمية للقيام بمهام الإشراف على مشاريعها. هذا الخبر بالنسبة لي كان كالشعرة التي قصمت ظهر البعير؛ إذ إنه جاء ليشعل جذوة مأساة حال القطاع الهندسي في المملكة، والذي لم يتحرك حتى الآن أحد من المسؤولين لإنقاذه من الانهيار على الرغم من كل الأصوات التي ارتفعت عاليا مستنجدة ومنادية دون أن يسمع أحد هذا النداء. وفي اليوم الذي قرأت هذا الخبر المحبط أتى إلي ابني الأكبر الذي يدرس الآن في المرحلة الثانوية ليناقش معي خيارات مستقبله الأكاديمي في المرحلة الجامعية، فوجدتني أنبري معارضا اختيار مجال الهندسة على الرغم من أنني أزعم أنني أب ديمقراطي أتيح المجال لأبنائي لتبني خياراتهم الخاصة في شؤون حياتهم. والسبب في ذلك هو أنني لم أرد لهم أن يكونوا ضحايا لهذا الخيار الذي يفترض به في العادة أن يكون خيارا مفضلا يؤمّن لصاحبه حياة كريمة ومكانة اجتماعية مميزة، فإذا به في بلادي قد عاد وبالا على الكثيرين ممن اقتحموه وتخصصوا فيه، بغض النظر عن المجال الذي اختاروا العمل فيه بين القطاعين العام والخاص، وليس أحدهما أفضل حالا من الآخر.
لنلق نظرة إذن على حال المهندسين، عسى أن يعرض هذا الشرح الصورة كاملة وجلية للمسؤولين عن هذا القطاع، فالمهندس في القطاع الحكومي يتولى في الغالب مسؤولية إدارة مشروعات التنمية التي تقوم على تطويرها مختلف الأجهزة الحكومية، وهي تلك المشروعات التي تصل تكاليف تنفيذها إلى مليارات الريالات، وبلغت في ميزانية هذا العام نحو 240 مليار ريال. ومع ذلك فإن هذا المهندس ما زال يستجدي كادرا وظيفيا يحترم مكانته ويقدر مسؤولياته ويميزه عن غيره من حملة الشهادات النظرية والإدارية الذين لا يحملون عبء المسؤولية الجسيمة التي يحملها. وإذا علمنا أن عدد المهندسين السعوديين العاملين في القطاع الحكومي يبلغ نحو ستة آلاف مهندس، فإننا نتساءل عن العبء الذي يمكن أن يوقعه هذا الكادر الحلم على ميزانية الدولة وخزانتها التي تعيش وفرة غامرة ببركة وفضل من الله. وأنا لا أدري في الحقيقة كيف يمكن للعدد ذاته من المهندسين وبالدخل المتدني ذاته أن يكون مسؤولا عن هذا العدد المتزايد من المشروعات عاما بعد آخر. إن هذا العدد من المهندسين العاملين في القطاع الحكومي يمثل نحو ثلث إجمالي عدد المهندسين السعوديين في المملكة، وهو بذلك يستحق استجابة جادة لمطالبهم بالكادر الحلم، على الأقل لضمان استمراريتهم في العمل في القطاع الحكومي وعدم تسربهم إلى القطاع الخاص، مع أنني أعلم يقينا أن القطاع الخاص ليس أفضل حالا من القطاع الحكومي، خاصة إذا علمنا أن كثيرا من القطاعات الحكومية تعمل على سد النقص في مواردها البشرية الهندسية المتخصصة عبر طرح عقود الدعم الفني التي يتم من خلالها توظيف مهندسين أجانب للقيام على إدارة مشروعات تلك الجهات الحكومية، وفي كثير من الأحيان تفوق رواتبهم تلك التي يحصل عليها المهندسون السعوديون الذين يشرفون عليهم. أجزم أن هذا التناقض العجيب يشكل سببا أساسيا في ظاهرة تعثر المشروعات الحكومية، وأيضا في كثير من حالات الفساد والرشا التي نسمع عنها، التي لا أوافق ولا يوافق عليها أحد بالطبع، لكنني أستطيع أن أتفهم حدوثها في ظل هذا الواقع المخل.
قلت إن المهندس في القطاع الخاص ليس أفضل حالا من زميله في القطاع الحكومي، فهو في القطاع الخاص أمام خيارين أحلاهما مر، فإما أن يعمل موظفا في إحدى شركات القطاع الخاص التي تعمل في أحد مجالات العمل الهندسي، أو أن يؤسس مكتبا هندسيا ليخوض غمار مجال الخدمات الهندسية المملوء بالعثرات والعقبات. ففي الخيار الأول يجد المهندس نفسه مضطرا لمنافسة أقرانه من الأجانب الذين تعج بهم تلك الشركات والمكاتب، ومضطرا كذلك لقبول معدلات الرواتب التي يحصلون عليها. وفوق ذلك، فهو محروم من أي مستقبل وظيفي متدرج، محروم من التأهيل والتدريب الذي يفترض أن يرتقي بقدراته ليضعه في مواقع المسؤولية، ومحروم أيضا من الاستقرار والأمن الوظيفي، ويواجه احتمال عدم تجديد عقده السنوي في قطاع يعاني تقلبات السوق والعديد من العقبات والمشاكل التي لا تحقق له ولا لموظفيه الاستقرار المطلوب. أنا هنا بالطبع لا أتحدث عن الشركات الكبرى كشركتي أرامكو وسابك وغيرهما من الشركات التي يحلم كثير من الشباب بالانتماء إليها، لكنني أتحدث عن شركات المقاولات والعقارات والمكاتب الهندسية التي تمثل الشريحة الأكبر من الكيانات الموظفة للمهندسين، التي تعاني مناخا مهنيا مملوءا بالعقبات، ويعاني الأمرّين منذ أن بدأت البنوك التجارية حالة التحفظ في الإقراض والتمويل التي تلت الأزمة المالية العالمية.
أما في الخيار الآخر في القطاع الخاص، فإن المهندس الذي يختار تأسيس مكتبه الهندسي عليه أن يخوض غمار تجربة مليئة بالمعاناة، وأن يواجه منافسة شرسة أشعل جذوتها هذا التوجه العارم لتوظيف المكاتب الاستشارية العالمية على غرار ما صرح به أمين محافظة جدة، والذي سبقته إليه جهات أخرى كثيرة، بما فيها وزارة المالية التي تعد المشغل الأكبر لمكتب دار الهندسة الذي يعمل في المملكة دون تصريح مهني رسمي من هيئة المهندسين، والهيئة العامة للاستثمار التي فتحت الباب على مصراعيه للمكاتب الاستشارية الأجنبية للدخول إلى سوق المملكة. الأهم من ذلك أن وزارة التجارة والصناعة ما زالت تصر على تطبيق أنظمة المهن الحرة والشركات المهنية التي تمثل السبب الرئيس في ضعف وتهلهل الكيانات الاستشارية المحلية، بالنظر إلى أنها ترسخ فردية العمل من ناحية، وتمنع عنه مصادر التمويل من ناحية أخرى. وفوق ذلك، فإن هذه الأنظمة تحرم المهندسين من أبسط حقوقهم في توريث كياناتهم لأبنائهم وأسرهم، وتحرمهم بالتالي من مصدر رزقهم الوحيد في هذه الحياة، وهو ما ألجأ كثيرا من أصحاب المكاتب لإهمال مكاتبهم وتركها لمهندسين أجانب يديرونها مقابل نسبة من الدخل يلقونها فتاتا لأصحاب المكاتب الذين اتجهوا لتأسيس أنشطة تجارية تؤمن لهم ولأسرهم عيشا كريما.
هذا العرض لا يقدم كل أوجه المعاناة في القطاع الهندسي المسكين، وربما يكون العنصر الأهم في هذه المعاناة هو تلك الحالة من الضعف التي تعتري هيئة المهندسين السعوديين، التي تعاني ضعف السلطات والصلاحيات الممنوحة لها لإدارة هذا القطاع، والتي نراها مستباحة في كثير من الحالات من أجهزة حكومية أخرى بكثير من الاستعلاء والازدراء. وفي ظل هذا الواقع، فإنني أجد لزاما عليّ أن أقترح على المسؤولين في الدولة أن يعمدوا إلى إغلاق كليات الهندسة منعا لتخريج مزيد من الضحايا إلى هذا القطاع، وليكن في المكاتب الاستشارية الأجنبية والمهندسين الوافدين الملجأ الذي يرومونه لإنجاز مشروعات التنمية، على الأقل على سبيل تشريع الخطأ ليرفع عنهم أصابع اللوم والتقريع التي يسلطها عليهم أمثالي من المهندسين المساكين.