القضاء.. لماذا يجفل الناس عنه؟
يعد برنامج تطوير مرفق القضاء من بين أهم خطوات الإصلاح التي يقودها خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز. إذ إنه خطوة تشكل لبنة أساساً، جنباً إلى جنب مع التعليم، في النهضة الشاملة التي تعيشها المملكة ورؤية قائدها لبناء مؤسسات قادرة على المنافسة في عالم فسيح لم تعد له حدود. فالقضاء ركن حصين في بنية المجتمعات، وفي تطويره العديد من المحاسن التي يصعب حصرها أو سردها لما سيتحقق - بإذن الله - من نقلة في تعاملات وسلوكيات الناس، والتيسير عليهم سبيل الوصول إلى حقوقهم دون مشقة أو عنت.
وعلى الرغم من أن ذلك البرنامج، كغيره من مبادرات الإصلاح في جميع المجتمعات، قد واجه في بداياته بعض العقبات، إلا أنه نجح في الحفاظ على مساره وأهدافه، وبدا لكثير من المتعاملين مع ذلك المرفق أنه بات يعيش حراكا غير مسبوق ينبئ بنقلة طال انتظارها. ولعل من فضول القول أن نشير إلى أن جودة المنظومة القضائية بكل عناصرها لا تنعكس فقط على ما ألف الناس من مظالم أو خصومات تقليدية، بل تمتد آثارها إلى مفاصل أخرى حيوية كالتنمية الاقتصادية، الاستثمارات، وفرص العمل. وتعزيزا لمسيرة الإصلاحات الشاملة وفي إطار سعيها لمواكبة المستجدات في عالم اليوم، تعكف المملكة منذ سنوات على إجراء مراجعة واسعة لأنظمتها وما يرتبط بها من لوائح، وإصدار أنظمة جديدة لسد ما قد يكون هناك من نقص أو فراغ.
لكن الملاحظ أن تلك الأنظمة واللوائح الجديدة لم يواكبها عند إصدارها، في كثير من الأحيان، زخم كاف من الإشهار والتعريف بمحتوياتها للجمهور وتدريب الكوادر المتخصصة للتعامل معها سواء في سلك القضاء أو الإدارات التنفيذية. وقد ترتب في بعض الحالات على ذلك الشح في الإعلان إرباك لمصالح الناس، تأخير البت في دعاويهم، وضياع حقوق البعض منهم. ومن المؤسف أن مؤسسات كبيرة ومن بينها بعض الجهات الحكومية تستغل تلك الثغرات ضد الطرف الضعيف من خصومها وتحديدا المواطن. إذ كلما شكا أحد من مظلمة قيل له ''أمامك القضاء''، وهم يعلمون يقينا أن ذلك المواطن (رجلا أو امرأة) لا يملك الخبرة أو المال لمنازلة كتيبة محترفة من محامي الخصم المتمرسين، كما أنه لا يملك الوقت والنفس الطويل للصبر على أساليب المماطلة والتأجيل. لذا كان من الطبيعي أن تبرز في المجتمع شريحة من أصحاب الحقوق تجفل عن اللجوء إلى القضاء، مؤثرة الحصول على حقوقها خارج ساحته، رغم ما قد يقع عليها من ظلم أو حيف. وليس من المستغرب أن يكون أحد طرفي النزاع أو الخصومة في تلك الشريحة لا يعرف أصلا طريق المحكمة، فضلا عن المثول أمامها.
إن جهل المواطن بالأنظمة واللوائح وعدم إلمامه بإجراءات التقاضي التي تكفل له عرض قضيته وإثبات حقه ليس هو السبب الوحيد في عزوف بعض الناس عن اللجوء إلى القضاء، بل هناك سبب آخر وربما يعد الأهم، ألا وهو غياب ثقافة القضاء بين الجمهور في المجتمع السعودي رغم وفرة وسائل الاتصال والتواصل. وكنت قد تناولت ذلك الموضوع في مقالة نشرتها ''الاقتصادية'' قبل نحو عامين، ذكرت فيها أن ثقافة المجتمع في المملكة عن مرفق القضاء يمكن وصفها بالغائبة. ولعل المسؤولية عن ذلك الغياب هي مسؤولية مشتركة بين المرفق ذاته وبين وسائل الإعلام ما يجعل المعالجة مرهونة بمبادرة منهما معاً. فكثير من الناس لا يعرف أين يذهب بقضيته في وجود درجات مختلفة للتقاضي، فهناك على سبيل المثال محكمة عامة، محكمة جزئية، محكمة تجارية، محكمة استئناف، محكمة عليا، وديوان مظالم (محكمة إدارية). وإن عرف الشاكي وجهته فعلى الأغلب أنه يجهل الشروط والإجراءات التي يجب عليه الالتزام بها في عرض شكواه.
إن تعريف المجتمع بمرفق القضاء وآليات عمله رسالة لا تقل أهمية عن تطوير المرفق ذاته. إذ متى ما ألف الناس سلوك الجادة التي تقود إليه ستشرع أبواب ونوافذ كثيرة للعدالة لا حصر لها، وهو ما يحقق توجيهات خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز في كل مناسبة تقريبا للمواطنين، ولا سيما المسؤولين؛ التي تحث على تقوى الله والعدل في التعامل مع الناس.