مظاهر استفزازية في صالة «الفرسان»
لم أعتد فيما سبق أن أكون كاتبا ساخرا، وفي مرحلة سابقة من حياتي، كنت قد خضت تجربة الكتابة اليومية في مدونة إلكترونية أنشأتها لأبثها همومي وتجاربي اليومية، على الأقل على سبيل الفضفضة، وعنونتها بمقدمة قلت فيها ''إن تجربة الكتابة الأسبوعية في الصحافة تجربة ثرية من ناحية، لكنها من ناحية أخرى تشكل معاناة للكاتب، من جهة أنها تخلق لديه حسا لالتقاط الأحداث والأخبار لتشكل قائمة طويلة من العناوين والموضوعات، وهو ما يجعل الكتابة الأسبوعية وسيلة غير كافية لتفريغ مخزون الذاكرة من الموضوعات والعناوين.. هذه المدونة ستكون الملجأ الذي أسطر فيه أطروحات يومية من ذلك المخزون، علها تكون وسيلة لتسجيل خواطري حول الوطن والتنمية والناس''.
هذه التجربة استمرت عاما كاملا بالتمام والكمال، توقفت بعدها تحت وطأة بعض الضغوط الشخصية والمعنوية، واكتفيت بمقالي الأسبوعي في هذه الجريدة. يوم الجمعة احتجت إلى تفريغ الضغوط التي تكالبت علي من مواقف متتالية تصادف أن تكون الخطوط الجوية العربية السعودية طرفا ثابتا فيها. وحتى لا يمل الإخوة القراء من هذا التكرار الممجوج من سرد قصص المعاناة مع ''الخطوط السعودية''، فقد قررت أن أحاول اتخاذ موقف الكاتب الساخر، تاركا للقارئ الكريم الحكم على هذه المحاولة، وربما أيضا التعليق على مضمون هذه القصة.
وصلت في الساعة السابعة إلى مطار جدة مع بعض الإخوة عائدين من رحلة إلى خارج المملكة، وانتقلت مع عدد من رفقاء الرحلة إلى صالة المغادرة الداخلية ليلحق كل منا بطائرته لتأخذه إلى محطته الأخيرة. ولما كان موعد رحلتي المجدولة إلى الرياض في الساعة العاشرة فقد ذهبت إلى كاونتر ''الخطوط السعودية'' محاولا الحصول على مقعد في رحلة أبكر من تلك الرحلة. موظف الخطوط أفادني بأن مقاعد كل الرحلات محجوزة مسبقا، ولا مجال ألبتة لتحقيق هذا المطلب، اللهم إلا عبر تسجيل اسمي في قائمة الانتظار، وهو ما يتطلب إلغاء حجزي الأصلي ونقل رقم التذكرة إلى حجز الانتظار. تعجبت من هذه الإفادة، إذ كيف يمكن أن أتخلى عن حجز مؤكد متعلقا بأمل واهٍ في حجز على قائمة الانتظار، ثم إن الانتظار لا يعد حجزا في حد ذاته حتى يقوم بتفعيل التذكرة عليه. لم يجدِ النقاش نفعا، فطلبت من الموظف إصدار بطاقة صعود الطائرة وذهبت إلى صالة الفرسان وأنا أفكر كيف سأقضي هاتين الساعتين في انتظار موعد إقلاع الرحلة.
بينما كنت أجول في صالة المطار وجدت أحد رفاق الرحلة وقد وصل إلى صالة الفرسان للتو بعد أن أنهى إجراءات سفره على رحلة لخطوط طيران ناس. هذا الرجل عضو في مجلس الشورى، ويحمل بطاقة الفرسان الذهبية التي تخوله الدخول إلى صالة الفرسان، كما تقول اللافتة المنصوبة على مدخل الصالة. لكن موظف استقبال الصالة رفض السماح له بالدخول محتجا بأن القاعة مخصصة فقط للمسافرين على ''الخطوط السعودية''، طالبا من هذا الرجل أن يلجأ إلى مدير المطار لحل مشكلته. الرجل ذهب طائعا إلى مدير المطار الذي كان من اللطف أن اتصل بموظف الصالة ولامه على هذا الخطأ، وطلب معتذرا من صديقي المسافر العودة إلى الصالة معززا مكرما. عندما وصل الرجل إلى الصالة وجد موظفا آخر على كاونتر الاستقبال، ليتكرر معه أيضا موقف الرفض لدخول الصالة، وهو موقف لم ينته إلا بعد كثير من الجدل والأيمان المغلظة عن موقف مدير المطار، فدخل الرجل صالة الفرسان فاتحا منتصرا. ولو أنه سألني لنصحته بعدم الإلحاح على تحقيق هذا النصر المبين، إذ لا مكسب يستحق خوض هذه المعركة من الأساس. فصالة الفرسان ليست إلا حالة من المنّ تمارسها ''الخطوط السعودية'' على مسافريها. أنا لا أريد أن أعقد تلك المقارنة الظالمة مع كل ما هو في بلادي وما يقابله في أماكن أخرى من العالم، دبي على سبيل المثال. صالة الدرجة الأولى في مطار دبي تجربة ماتعة بكل ما تعنيه الكلمة، تلوح فيها علامات الكرم والضيافة بصنوف شتى من الأطعمة والمشروبات ومقاعد وثيرة وتجهيزات متقدمة. في المقابل، فإن حاويات الطعام في صالة فرسان مطار جدة كانت فارغة عندما وصلت إليها. وعندما سألت موظف الاستقبال عما إذا كان سيعاد ملؤها أجابني أن الأطعمة تقدم فقط في وقت الغداء ووقت العشاء، وبخلاف ذلك فلا يتم تقديم شيء سوى بعض الشطائر الخفيفة التي لا تسمن ولا تغني من جوع. تحاملت على نفسي وآثرت الصمت وجلست ممسكا بحاسوبي الصغير لأراجع رسائل بريدي الإلكتروني التي انقطعت عنها لثلاثة أيام متواصلة. المفاجأة الجديدة كانت أن شبكة الإنترنت في صالة الفرسان لا تعمل، فتوجهت مرة أخرى إلى موظف الاستقبال سائلا عن هذا الخلل، فقال إن ضغط المستخدمين على الشبكة هو السبب، وإنه لا يملك فعل شيء، إذ إن موظف صيانة الشبكة لا يأتي إلا صباحا. مظهر آخر من مظاهر الاستخفاف بالمسافرين، وهو مظهر يصبح أكثر استفزازا عندما يكون مصحوبا بهذه اللغة الجامدة المتعالية من مثل هذا الموظف. قلت لنفسي، إذا كان هذا هو الحال في صالة الدرجة الأولى، فكيف هو الحال في صالات المسافرين العامة ممن لم تتهيأ لهم وسائل الراحة والمتعة التي خصصتها الخطوط السعودية لنخبة مسافريها؟
اكتفيت بما رويت من القصة، فختمت المقال تمهيدا لإرساله إلى الجريدة، لأستعد بعدها لصعود طائرتي متجها إلى الرياض لأنهي يوما جديدا من أيام المعاناة مع ''الخطوط السعودية''، داعيا الله ألا تمتد هذه المعاناة أثناء الرحلة، وإلا فإنني سأضطر إلى إرسال ملحق لهذا المقال إلى الجريدة لأكمل مسرحية هذا المساء مع ''الخطوط السعودية''.