مواقفنا الإدارية بين الداخل والخارج

في حديث صامت هادئ، وفي ساعة صفاء مع الذات، نظرت إلى موقفين ربما يجسدان الأشخاص أنفسهم، لكن يبرزان اختلاف المواقف، هذان الموقفان هما عندما تجتمع مجموعة من المسؤولين أو المعنيين بأمر من الأمور العامة مثلا للنقاش والحوار حول أفضل السبل لأداء العمل وتطويره، نجد أن النقاش والحوار يأخذ الطابع الرسمي والمجاملات، وربما أغلب الحضور يكون صامتا كل الوقت، وربما يشارك بعضهم برأي بسيط لا يقدم ولا يؤخر في أهمية الحدث والاجتماع، وربما بعضهم لا يكون أصلاً حاضر الذهن والعطاء، أما إذا كان الاجتماع ذا تمثيل أعلى فإن المشاركة الحقيقية بالرأي والمشورة والعطاء تكون شبه معدومة.
إن أغلبية الاجتماعات الرسمية المهمة ذات المسؤولية العالية التي تتطلب المشاركة الجادة والصادقة والشفافة ينتهي بها المطاف إلى اجتماعات صامتة ذات ميول للمجاملة وربما حماية الذات والمصالح الخاصة، لهذا فإن أغلبية هذه الاجتماعات تموت قبل أن تولد ولا يرى لها خير.
في المقابل، وفي الموقف الآخر عندما يخرج هؤلاء المجتمعون إلى مجالسهم الخاصة تسمع النقد الجارح لهذا الرأي أو لذلك الشخص أو الموقف أو الرأي أو القرار إلى آخر السلسلة النقدية التي يتزعمها في الغالب أصحاب الصوت الصامت في مثل هذه الاجتماعات الرسمية المهمة، التي تتطلب منهم المصارحة والشفافية في الطرح والقول، وحديثهم في مجالسهم الخاصة ونقدهم غير البناء حتى إن كان ذا أثر إيجابي، إلا أن موقعه وطرحه في مجالس خاصة لا يخدم الهدف الذي يطرح من أجله ويجعل الفائدة منه معدومة، وربما بسبب طرحه الناقد يفقد الطرح الشفاف والرأي الصائب خبرة ويجعل الاستفادة منه محدودة وربما معدومة نتيجة تشويه الصورة التي طرح بها عندما نقله ذلك المتحدث بشكل استهزائي ونقد جارح.
إن المتحدث الناقد في مجلسه أو جلسته الخاصة وتصغيره وتحقيره لما يطرح في الاجتماعات الرسمية وصمته المطبق فيها وعدم جرأته على الطرح الصادق في المكان المناسب وأمام المعنيين المناسبين يجعلني أعود إلى سؤالي الذي بدأت به هذا المقال وهو: لو قمنا بتعديل الصورة بحيث يقوم كل شخص معني أو مسؤول عن أمر من الأمور بالحديث الصادق الجاد الشفاف في المكان المناسب مثل الاجتماعات الرسمية وإيضاح موقفه بكل أمانة وطرح رأيه بكل شفافية، وبعد النقاش يقبل رأي المجموعة أو الأكثرية، ثم عندما يخرج إلى الأماكن العامة والجلسات الخاصة وأحاديث السمر يكون داعما لما طرح في الاجتماعات الرسمية بدل أن يكون ناقدا لها، هل مثل هذا التغيير السلوكي الإيجابي سيغير في طريقة عملنا وسلوكنا وحياتنا ومصداقيتنا بحيث نتحدث بما يجب في المكان الصحيح ونصمت عما لا يجب في المكان المناسب، بمعنى أن نقول الحقيقة بالشفافية المطلوبة عندما نكون في اجتماعاتنا الرسمية بما يرضي ضمائرنا ونترك عنا النقد الهادم والذكر السيئ للآخرين عندما لا نكون معهم.
إن فكرة تعديل المواقع بحيث نختلف في المكان الذي يجب أن نختلف فيه، ونتناقش فيه ونتحدث في المكان الذي يجب أن ندعم بعضنا فيه ربما تكون سببا أساسيا وجوهريا في تغيير السلوك السلبي الذي يعيشه الكثير منا ممن يعشقون النقد الهدام والتجريح المضر بهم وبغيرهم.
دعونا نفكر كيف نكون أصحاب فكر بناء ومؤسسي وذا دعوة للعطاء والتميز ونبتعد عن الفكر السلبي الهدام والنقد الجارح غير البناء، الذي أول ما يؤثر يضر صاحبه، لأنه عندما يخلو مع نفسه يحتقرها، لأنها لم تكن صاحبة موقف ومبدأ سليم، ولأنها خانت صاحبها عندما كان في أمسّ الحاجة إليها للوقوف معه لقول الحق والصدق في وقته ومكانه ولم تكن معه عندما بدأ يقول ذلك في غير وقته ومكانه.
إن تعزيز مبدأ ومفهوم تكامل العمل والمسؤوليات والعمل بروح الفريق الواحد في كل مؤسسة حكومية أو خاصة أو غيرها من قطاعات الدولة سيعزز تحقيق الاستقرار التنموي الإداري ويفعل المفهوم الحقيقي لاستدامة الإدارة. ولعل المثال في هذا الشأن يساعد على إيضاح الصورة المطلوبة، فمثلا لو أن مجموعة من المديرين أو المسؤولين العاملين في أحد القطاعات ممن يتطلب عملهم الاجتماع والحوار والخروج بالآراء التي تؤدي إلى تطوير عمل جهازهم كانوا يعملون بشكل منسجم وبطرح صادق وشفاف لكل أمور مؤسستهم أو جهازهم، وكل مشارك شارك بفاعلية وأمانة وصدق وجعل كل ما يدور في ذهنه على طاولة النقاش مهما كان مختلفا مع الآخرين، بحيث تتم الاستفادة من كل الأفكار وتطويرها ثم عندما يخرج إلى مجالسه الخاصة وأحاديثه الشخصية لا يذكر جهازه أو مؤسسته والعاملين فيها إلا بكل خير ويدعم كل طرح أو رأي تتبناه تلك المؤسسة، بمعنى أن يكون ناقدا وقاسيا في الطرح عندما يكون داخل صالة الاجتماع ويكون داعما ومؤيدا لكل ما يناقش خارجها.. كيف يكون حال مؤسساتنا وأجهزتنا والعاملين فيها ونفسياتهم ومعنوياتهم؟
خاطرة مرت بصمت وأنا أستمع لذلك الناقد في مجلسه الصامت المستكين في اجتماعه، خاطرة أو ربما نظرية إدارية ربما تجد القلب الفاهم لرؤيتها القادر على تنفيذها.
وفق الله الجميع لما يحب ويرضى.

وقفة تأمل :
إذا كنت صبارا لدفع الشدائد
وسطوة جبار وجفوة صاحب
ودنت بمنع النفس عن شهواتها
ونيل هواها خوف سوء العواقب
فقد حزت أشتات المكارم كلها
وأحرزت سبق الفضل من كل جانب

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي