قرارات ممهورة بختم «سد باب الذرائع»!
قبل عامين، دعا الشيخ الدكتور سلمان العودة في إحدى حلقات برنامجه الرمضاني ''حجر الزاوية'' علماء الشريعة إلى فتح باب الذرائع بدلا من سدها، مشددا على أن قاعدة سد الذرائع ليست ثابتة، وأنها تعد ''منعا قانونيا'' أكثر من كونها ''حكما شرعيا''.
فقاعدة ''سد باب الذرائع'' تعتمد على منع المسموح (المباح) خوفا من أن يفضي إلى ارتكاب المحظور. غير أن هذه القاعدة خرجت من الإطار الفقهي وانتشرت في أروقة الإدارة، واتخذ البعض على أساسها معظم قراراتهم الإدارية. فالمدير الذي لا يريد أن يفكر في حل مشكلة ما، يلجأ إلى أسهل الحلول وهو: المنع ويسد باب الذرائع ويستريح!
في بعض الجهات الحكومية، يُمنع الموظفون من الاطلاع على ''لائحة شؤون الموظفين'' و''لائحة التدريب والابتعاث'' اللتين توضحان بالتفصيل حقوقهم (بالإضافة إلى واجباتهم المعروفة سلفا!)، ويأتي المنع ''سدا لباب الذرائع''، وخشية من أن يعرف الموظفون ''حقوقا'' لم يعلموا عنها من قبل فيزعجوا مديريهم بالمطالبة بها!
وفي جهات حكومية أخرى، يُمنع الموظف من الاطلاع على تقارير أدائه السنوي المصنفة على أنها ''سرية''، رغم أنه المعني الأول بالتقييم، ويهمه أن يعرف نقاط القوة والضعف، ليتمكن من تحسين الأداء. لكن المديرين يصرون على المنع ''سدا لباب الذرائع''، وكي لا يحدث الموظفون بلبلة في الجهة أو إزعاجا لهم إذا علموا عن تدني درجات تقييمهم!
هناك قرارات إدارية حكومية ''غريبة'' تتخذ وتصدر بشأنها تعاميم منطلقة من قاعدة ''سد باب الذرائع''، منها منع الموظفين من:
• المشاركة في قرارات الإدارة العليا
• الاطلاع على سلم الرواتب والمزايا
• النقل إلى إدارة أو جهة أخرى
• تلقي التدريب (رغم توافر الميزانية لهذا البند!)
• الحصول على خدمة الإنترنت (رغم توافرها الآن في أجهزة الجوال!)
لكن من حسن الحظ ليس كل القرارات ''الحكومية'' مغلفة بطابع المنع. هناك قرارات جريئة تنطلق من رؤية إدارية متفتحة ترى أن قرارات السماح أشجع من قرارات المنع، منها على سبيل المثال، قرار الأمير سطام بن عبد العزيز أمير منطقة الرياض بالسماح للشباب العزاب من دخول الأسواق والمجمعات التجارية. فالقرار اتخذ بناء على توصية من اللجنة الثلاثية (تمثل الإمارة والحسبة والشرطة)، التي رأت عدم منع الشباب من دخول الأسواق إلا من يُلاحظ عليه مخالفات تمس الآداب أو الذوق العام أو الأنظمة. فالشباب ظلوا ممنوعين من دخول الأسواق والمجمعات التجارية لسنوات، وهو ''قرار تقليدي'' اتخذته إدارات تلك المجمعات ''سدا لباب الذرائع'' وخشية من مضايقة الشباب للنساء، مع أنه ليس كل الشباب عديمي التهذيب، والأصل أن يتم السماح للجميع، ومن ثم معاقبة من يتعدى على الغير بالقول والفعل، لا أن يؤخذ العقلاء بجريرة المستهترين.
أما في القطاع الخاص، فيتفاوت استخدام قاعدة ''سد باب الذرائع''. ويزداد الأمر سوءا هنا لأننا كعملاء نشعر بنوع من الاضطهاد تمارسه ضدنا بعض المؤسسات والشركات حين تحجب عنا خدمات معينة. ومن أبرز الشواهد على استخدام تلك القاعدة التي أضرت بمصالح شريحة كبيرة من الناس (العملاء):
• بنوك تمنع إقراض المشتغلين لأنفسهم وأصحاب المهن الحرة، وتمنع كذلك إصدار بطاقات ائتمانية لهم، مع أن البنوك في الخارج تقدم خدماتها بناء على السجل الائتماني للعميل وليس مصادر الدخل.
• شركات مالية تمنع عملاءها من إجراء التحويلات (إلكترونيا) إلى حسابات خارج المملكة، خشية غسيل الأموال، واشتراط حضور العميل شخصيا للقيام بالتحويل، مع أن هذا لا يمنع إطلاقا حدوث غسيل الأموال!
• شركات تأجير السيارات تمنع بعض المواطنين (الموظفين) من استئجار سياراتها، مع أنها تستطيع أن تؤجرهم وتشترط عليهم إبراز البطاقة الائتمانية بدلا من المنع التام أو اشتراط إحضار خطاب تعريف بالراتب من جهة عمل الموظف!
• متاجر تمنع عملاءها من ترجيع البضاعة واستبدالها (تذكروا العبارة الشهيرة.. البضاعة المباعة لا ترد ولا تستبدل!)، خوفا من التلاعب مع أن الأجدى أن يتم ذلك وفق ضوابط!
عقلية المنع، سواء كانت تعمل في القطاع العام أو الخاص، هي عقلية تعاني نوعا معينا من الرهاب أسميه ''رهاب الحل''. تخاف من إيجاد الحلول الإبداعية للمشكلات التي تعترضها، وبالتالي تلجأ إلى المنع. صار الممنوع عندنا هو القاعدة والمسموح هو الاستثناء. والأصل أن يتم السماح بالإجراء أو الخدمة، وإذا كان هناك من أساء استخدامهما، فيتم التعامل معه بحزم وشدة. وليت ''عقلية المنع'' قبل أن تتخذ قرار المنع أن تطرح بدائل للممنوع. المنع وحده لا يجدي في ظل انعدام الخيارات الأخرى. فإذا منعت إنسانا من أن يسلك طريقا جبليا، فلا تحرمه من السير في بطن الوادي!