البيئة الاستثمارية والمأمول بعد نظام التحكيم الجديد
ما لا شك فيه أن المملكة تحرص كل الحرص على تنمية وتشجيع البيئة الاستثمارية وتعمل على إزالة الهواجس والمخاوف التي انتابت وما زالت تنتاب المستثمرين، الوطنيين منهم والأجانب، بشأن الاحتكام في منازعاتهم إلى المحاكم القضائية السعودية بسبب بطء الفصل في القضايا والتأخير في تنفيذ الأحكام ما يؤدي إلى ضياع الحقوق.
وكان أحد الخيارات هو نظام التحكيم السعودي القديم الذي - مع الأسف - لم يحقق رغبات المستثمرين وتطلعاتهم، الأمر الذي تطلب إلغاء هذا النظام وصدور نظام جديد للتحكيم بالمرسوم الملكي رقم (م/34) وتاريخ 24/5/1433هـ، وعمل هذا النظام على ترسيخ الشفافية وتبسيط إجراءات التحكيم وسلاستها لسرعة الفصل في القضايا التحكيمية، كما شمل الاعتراف بوسائل الاتصال الحديثة في الإثبات مثل الإيميل وغيره، إضافة إلى إنشاء مركز تحكيم سعودي وأحقية أطراف التحكيم في اللجوء إلى مراكز التحكيم الدولية، وفي الاحتكام إلى قواعد قانونية غير المنصوص عليها في النظام السعودي، وذلك تحقيقاً لرغبات المستثمرين السعوديين أو غيرهم على حد سواء في الاحتكام إلى نظام يختارونه بأنفسهم لضمان سرعة الفصل في القضايا وقلة التكلفة، ما يجعل المملكة بيئة استثمارية واعدة.
والحقيقة أن نظام التحكيم الجديد لا يعدو أن يكون إلا إحدى الخطوات الكبيرة التي انتهجتها المملكة بهدف تنمية البيئة الاستثمارية فقد سبق صدور هذا النظام صدور أنظمة عدة أخرى، أهمها على وجه الإطلاق نظام القضاء الجديد الصادر بالمرسوم الملكي رقم (م/78) وتاريخ 19/09/1428هـ متضمناً التأكيد على استقلالية القضاء في المملكة وتعدد درجات التقاضي في محاكمه المختلفة - الدرجة الأولى ومحكمة الاستئناف ثم المحكمة العليا - كما تضمن النظام - أيضاً - زيادة اختصاصات القضاء ومنها نظر منازعات الاستثمار، التي هي في إطار التفعيل قريباً بعد إلغاء لجنة تسوية منازعات الاستثمار، ما يعطي ثقة للمستثمرين الوطنيين والأجانب في عرض منازعاتهم على القضاء ليصب ذلك في مصلحة المستثمر للاستفادة من الإجراءات النظامية والإجرائية المستحدثة التي تؤدي إلى سرعة الفصل في القضايا وتنفيذ الأحكام، إضافة إلى التزام المملكة بالاتفاقيات والمعاهدات الدولية التي وقعت عليها والخاصة بالاستثمار مثل اتفاقية تنفيذ الأحكام الصادرة عن جامعة الدول العربية عام 1952 واتفاقية نيويورك لتنفيذ أحكام المحكمين الأجنبية لعام 1958، التي انضمت إليها المملكة عام 1994.
كما لا يخفى أنه يحق للمستثمرين السعوديين والأجانب اللجوء إلى قواعد تحكيم غرفة التجارة الدولية في باريس لحل منازعاتهم؛ لأنها تُعد ملاذاً لحل المنازعات عن طريق قواعد التحكيم الخاصة بهذه الغرفة لما تتمتع به من سمعة دولية مرموقة، وهذا لم يمنعه نظام التحكيم السعودي الجديد خدمة للمستثمرين الذين يأملون الكثير حال تفعيل وتطبيق هذا النظام وبعد أن تصدر لائحته التنفيذية.
وعلى الرغم من ذلك كله، وحتى يمكن تفعيل وتشجيع الاستثمارات داخل المملكة بشكل صحيح وفاعل فإنه يقترح ما يلي:
1 - إنشاء محكمة اقتصادية مستقلة بجانب المحاكم العامة والإدارية وليست دائرة في محكمة قضائية على النحو المنصوص عليه في المادة 6 من النظام القضائي الجديد الصادر بالمرسوم الملكي رقم م/78 وتاريخ 19/9/1428هـ، تُعنى بقضايا الاستثمار والتجارة فقط وتختص بالنظر في الطعون المقامة ضد الأحكام الصادرة عن هيئات التحكيم ويكون حكمها باتاً ونهائياً وغير قابل للطعن، على غرار ما عليه بعض النظم القانونية العربية والأجنبية الأخرى.
2 - استفادة اللائحة التنفيذية المزمع إصدارها لنظام التحكيم السعودي الجديد من الأحكام المستحدثة في القواعد الإجرائية للمحكمة التجارية الدولية التابعة لـICC، لا سيما أنها عُدلت أخيرا هذا العام 2012 نظراً لحداثتها ولأنها محكمة دولية مرموقة ذات باع طويل في هذا المجال.
3 - أن يكون لمركز التحكيم السعودي المزمع إنشاؤه - المذكور في نظام التحكيم الجديد - قوة وصبغة قانونية في اعتماد إجراءات التحكيم، على أن تُحدد الشروط والضوابط الخاصة بإدارته وشروط اختيار المحكمين التابعين له، وتنظيم العملية التحكيمية وأيضاً تحديد مسؤولياته في حال حدوث أضرار بالغير وأن يكون نظامه متوافقاً مع أنظمة مراكز التحكيم الدولية لضمان تحقيق غايات التحكيم المنشودة ونيل ثقة المستثمرين.
4 - منح الفرصة للمستثمرين المحتكمين في اختيار محكميهم من غير المحامين مثل اختيارهم مهندسين أو فنيين أو محاسبين لإلمامهم بالموضوعات الفنية محل الدعوى التحكيمية، على النحو المتعارف عليه في أنظمة التحكيم المختلفة، حيث إنه يُلاحظ أن النظام الجديد لم يعط الحق لغير حملة شهادة العلوم الشرعية أو النظامية في رئاسة هيئات التحكيم أو في حال كون المحكم فرداً، وهذا يقيد إرادة المستثمرين الذين قد يرون في بعض المجالات مثل عقود المقاولات أو غيرها أنه من الأفضل لهم أن يتم اختيار محكَم ذي خلفية فنية، وهو المعمول به في كل أو كثير من دول العالم.
5 - وضع آلية عملية ومحددة لضمان تفعيل اتفاقية نيويورك لتنفيذ الأحكام الأجنبية الصادرة عام 1994 وغيرها من الاتفاقيات الدولية المعنية، لا سيما بعد أن أصبح التحكيم السعودي يغطي الطابع الدولي، وذلك لضمان سرعة الفصل في القضايا وتحقيق آمال وتطلعات المستثمرين وعدم التناقض مع المراكز الدولية الكبرى سواء الـICC أو غيرها، وهذا لعمري سيخلق بيئة خصبة في الاستثمار في المملكة.
6 - البدء بعقد دورات تدريبية للمهتمين بالتحكيم محلياً ودولياً سواء كانوا قضاة أو محامين أو مهنيين أو رجال أعمال أو غيرهم، لبيان المستحدث في أحكام التحكيم خصوصا التحكيم الدولي وما أوجه الاتفاق والاختلاف بين نظام التحكيم السعودي والأنظمة الأخرى وما الدور المتوقع والمأمول لمركز التحكيم الجديد المزمع إنشاؤه حسب النظام والتعاون بين الجهات الحكومية وغير الحكومية العاملة والمهتمة بالتحكيم إلى جانب عقد فعاليات يشارك فيها المستثمرون وغيرهم من شرائح المجتمع المختلفة لنشر ثقافة التحكيم وتأكيد أحكامه وفاعليتها من خلال ورش العمل والملتقيات والمؤتمرات.