التنمية والدفع بالمسؤولية نحو الأسفل

كلما وضعت التنمية ببعديها الإنساني والمكاني أمام ناظري وتحت روح قلمي للبحث عن عثرتنا فيها وأسبابها! ومع أنني كل مرة أقف عند سبب، إلا أنه في لقاء شمل مجموعة من الزملاء استوقفتني كلمة قيلت بشكل هادئ غير مباشرة أو مؤثرة في سياق مناقشة كيفية تطوير الأداء والارتقاء به, هذه الكلمة كانت حول أهمية إعطاء المزيد من المسؤوليات والصلاحيات للقيادات في المستويات الإدارية أسفل الهرم الوظيفي بدل الدفع بها نحو الأعلى بمعنى الدفع بها نحو الوزير أو من هو أعلى منه, وهذا الدفع من كل المسؤولين في أسفل ووسط الهرم الهدف منه عدم تحمل مسؤولية اتخاذ القرار وما يترتب عليه من سلبيات في نظرهم، وهي في الغالب المواجهة مع أطراف أخرى، ولهذا عندما يكون القرار من سلطة أعلى فسيكون دور هؤلاء المسؤولين التنفيذ فقط.
إن الأخذ بثقافة الدفع بالمسؤولية إلى الأعلى وفي كل قضايانا التنموية الصغيرة والكبيرة المحلية والإقليمية والوطنية جعل من العمل والإنجاز وتطويرهما أمرا في غاية الصعوبة وأصبح دور أغلبية أو كل المسؤولين المحليين والإقليميين عبارة عن سعاة بريد مهمتهم تسلم المعاملات وإرسالها دون أن يكون لهم دور في أي قرار يصنع أو يتخذ حتى في أبسط الأمور, هذه السياسة الإدارية التي أثرت بشكل مباشر على كل المستويات الإدارية من أسفل الهرم الوظيفي إلى أعلاه أصبحت أحد أهم معوقات التنمية في المملكة, وطنيا وإقليميا ومحليا.
إن الدفع بمسؤولية اتخاذ القرار وتنفيذه للقيادات المحلية والقيادات في أسفل الهرم الوظيفي مع إيجاد الرقابة الصارمة لتقنين القرار من خلالها، وفي الوقت نفسه حماية القرار وصاحبه سيعزز من مفهوم المسؤولية التنموية الشاملة لجميع من يكلف بالعمل, وفي الوقت نفسه سيكون هناك نوع من المحاسبة لمن لا يمارس صلاحياته المقننة والواضحة له ضمن ما يسمى بالوصف الوظيفي لكل منصب كبر أو صغر.
إن الاستمرار بتدافع وتقاذف مسؤولية اتخاذ القرار مهما كان بسيطا نحو قمة الهرم الوظيفي وبقاء جميع القيادات تحت ذلك الهرم مجرد أحجار على رقعة الشطرنج سيؤدي إلى المزيد من عدم الإنجاز ويقود إلى المزيد من الفساد المباشر وغير المباشر ويرفع من وتيرة تذمر المواطنين من عدم القدرة على تحقيق متطلباتهم الحياتية حتى البسيطة منها.
إن المتابع للشأن العام في العديد من الدوائر الحكومية، إن لم يكن كلها، يجدها تقاد بشكل مباشر وغير مباشر للتخلي عن مسؤولياتها في اتخاذ القرارات ذات الصلة المباشرة بأعمالها والرفع بها لمراجعها لأخذ التوجيه، وهذه المراجع تدفع بذلك نحو المستوى الأعلى في الدولة ثم التحجج بعدم صدور توجيهات حول ما تم رفعه مع أن المرفوع صدر به العديد من الأنظمة والصلاحيات، ولكن الخوف من تحمل مسؤولية اتخاذ القرار يجعل الكل يتهرب من مسؤوليته، وهذا أدى إلى تراكم الأعمال وكثرة التجاوزات والمخالفات والترهل الوظيفي والعملي بشكل غير مسبوق.
كما أن الدفع بالقرار ومسؤولية اتخاذه جعل الدوائر والأجهزة المركزية تتدخل في كل القضايا المحلية، بحيث كل مشكلة في المدينة أو القرية لا بد أن تشكل لها لجنة تأتي من الجهاز المركزي لمعالجتها، وهذا عزز من الانسحاب من تحمل المسؤولية في الأجهزة المحلية واعتمادها على ما يصدر من قرار من اللجنة المركزية وأغلب هذه اللجان لا تقدم حلولا عملية، وإنما توصيات يمكن الأخذ بها أو إهمالها، وبهذا زاد الأمر سوءا في تحقيق التنمية في أبسط معانيها.
إن الالتفات لأمر إدارة العمل على كل المستويات الوطنية والإقليمية والمحلية وتحديد الصلاحيات والمسؤوليات والإلزام بها وحماية العاملين ومتخذي القرار هو ما سيساعد على التغيير التدريجي والحقيقي في الأداء والتنمية ويعزز من سرعة اتخاذ القرار وتنفيذه، ولهذا يجب التركيز على الدفع بالمسؤولية في شقيها: اتخاذ القرار وتنفيذه نحو القيادات في أسفل الهرم وإلزامها بممارسة عملها بما يضمن تحقيق التوجيهات السديدة لقيادة هذا الوطن المبارك، وهذا الأمر يتطلب نظرة أوسع في مساحات الصلاحيات لكل المستويات الإدارية وتعزيز الرقابة الإيجابية الصارمة التي توجب على كل مسؤول تحمل مسؤوليته وتخرجنا من مثلث برمودا الإداري الذي يقوم على قاعدة ''لا تعمل حتى لا تخطئ ثم تحاسب'' وأن يكون كل مسؤول مسؤولا أمام الله أولا ثم أمام القيادة والمواطنين عن أداء عمله.
وفق الله الجهود التي تعمل من أجل وطن سعودي الانتماء, عربي اللسان, إسلامي المعتقد وعالمي الطموح, والله من وراء القصد.

وقفة تأمل

خبت نار نفسي باشتعال مفارقي
وأظلم ليلي إذ أضاء شِهابُها
أأنعمُ عيشاً بعدما حل عارضي
طلائعُ شيبٍ ليس يغني خِضابُها؟
وعِزةُ عمرِ المرء وأبيض شعره
تنقص من أيامه مستطابها
فدعْ عنك سوءات الأمور فإنها
حرامٌ على نفس التقي ارتكابُها

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي