أيها المسؤولون .. رفقا بالعصافير
في مجلس مكتظ برجال الأعمال والتنفيذيين كان الحديث عاصفا حول الوزراء والمسؤولين المتميزين، ومدى التناغم بين أداء الوزارات بعضها مع بعض، وآليات التخطيط وتحقيق الانسجام بين الوزير السلف مع الوزير الخلف، وكلها مواضيع متشابكة وشائكة.
الموضوع الذي جذبني أكثر في النقاش كان الحديث عن العصافير، ومدى اهتمام المسؤولين والوزراء بهؤلاء العصافير، ليس بدعمهم وتمكينهم، لكن، وهو الأهم، بعدم التضييق عليهم وكف الأذى عنهم، فهؤلاء العصافير هم نسور المستقبل وأسود الوطن لاحقاً؛ لقد كان العصافير المقصودون هم صغار التجار وشباب الأعمال والمبادرين.
في دراسة علمية أجريت حول المعوقات التي يواجهها شباب الأعمال والمبتدئون في التجارة والصناعة، كانت التوقعات ترشح السيولة وصعوبات التمويل كمعوق رئيس أول، إلا أن المفاجأة كانت أن المعوقات الحكومية احتلت المراكز الأولى في الدراسة.
وتتفق معظم الدراسات على أن المؤسسات الصغيرة هي المساهم الأول في التوظيف في أي دولة، وهي أكثر الوجهات الاقتصادية فتحا لأبواب الرزق، وتقدر نسب التوظيف في هذه المؤسسات بـ 70 في المائة من القوى العاملة.
كثير من الإمبراطوريات التجارية والصناعية كانت عصافير في بدايتها، ولو تمت محاربتها وتقزيمها عند نشأتها لماتت في صباها، ودفنت في مهدها، لذلك كانت رعايتها ودعمها آنذاك مسؤولية وطنية نجحت في بناء أساطين التجارة والاقتصاد، الحاجة اليوم أكبر إلى دعم المؤسسات الصغيرة وشباب الأعمال في ظل انفتاح الأسواق والمنافسة الشرسة مع العالم كله، بل يندرج تحت هذا المصطلح فراخ العصافير، وهي المنشآت الصغيرة التي تخرج من رحم الشركات العملاقة، فشركة صغيرة تؤسسها شركة ضخمة مثل سابك أو الاتصالات يجب أن تدعم أيضا، فهي عصفور صغير يسهم في التوظيف والتنمية.
بالتالي فنحن نعني أي مؤسسة صغيرة، لكننا أيضا لا نستثني من العصافير أصحاب المباسط في الأسواق وبائعي الفواكه والخضراوات على جوانب الطريق والأسر المنتجة والمبدعين في العالم الافتراضي.. إلخ. هؤلاء كلهم يجب أن يحظوا باهتمام ورعاية وتعامل أفضل مما توليه بعض الوزارات لرافضي العمل والواقفين في صفوف البطالة يتوسلون حافزا من هنا أو من هناك.
هذه العصافير جديرة بالرعاية والاهتمام، فتسهيل أعمالها من أوجب واجبات المسؤول، والرعاية الحانية والعطف الأبوي، يجب أن يكون حقيقياً من المسؤولين الحكوميين.
الجهات ذات العلاقة المباشرة وغير المباشرة بقطاع العصافير ليست جهة واحدة ولا وزارة أو إدارة واحدة، بل هي أكثر الجهات الحكومية في البلد، مثل: وزارة التجارة والصناعة ووزارة العمل والهيئة العامة للاستثمار ووزارة البلديات وهيئة سوق المال، ووزارة الصحة، ووزارة الإعلام، والدفاع المدني، والجمارك، وهيئة الغذاء والدواء، وهيئة المواصفات والمقاييس، ووزارة العدل، وهيئة السياحة والآثار، ووزارة الشؤون البلدية والقروية، وهيئة الطيران المدني، وبنك التسليف، وصندوق التنمية الصناعي، ووزارة التعليم، وهيئة المدن الصناعية، ووزارة المالية، ووزارة الزراعة.. إلخ، ويتعدى ذلك إلى بعض الجهات غير الحكومية مثل الغرف التجارية ومجلس الغرف وصندوق المئوية ومؤسسة الملك عبد العزيز ورجاله للموهوبين. وعلاقة هذه الجهات بقطاع العصافير بين مُقل ومستكثر، لكنها في النهاية تؤثر تأثيرا مباشرا في توسيع قاعدة العصافير، والترغيب فيها أو الترهيب منها.
الرعاية والاهتمام المطلوبان هنا لا يتم التنازل فيهما عن السلامة أو يقع فيهما الضرر على أحد، أو يؤصل التستر لأحد، لكن هذه المؤسسات تحتاج إلى رعاية خاصة ومميزة توائم بين حجمها الصغير وعددها الكبير وإمكاناتها المتواضعة، بما يحقق التناسق بين التكلفة التي يتحملونها والعائد الذي يحصلون عليه.
من المهم، بل الحيوي هنا أن تنظر المؤسسات الحكومية لهذا القطاع "المؤسسات الصغيرة" نظرة حاجة وليست نظرة خدمة، والفرق بينهما كبير، فالمؤسسات الحكومية عندما تنظر للقطاع على أنها تخدمه فقط فلن يحصل القطاع على الاهتمام المطلوب، بل على العكس قد يتم التعامل معه على أنه عبء على الدولة ومؤسساتها ومسؤوليها وموظفيها ومواردها، ومع الأسف، أن هذا هو بالضبط ما يحصل الآن في كثير من المؤسسات الحكومية.
سينعكس الأمر تماما عندما تنظر المؤسسات الحكومية للقطاع على أنه حاجة وضرورة لتنمية البلد وتوطين الوظائف وخلق الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي والأمني داخليا، آنذاك ستكون النظرة والفعل والمبادرة من قبل المؤسسات الحكومية وقياداتها إيجابية وخلاقة وداعمة للقطاع، وتعامل محترم مع أصحابه.
يذكر أن التضييق على هذه المؤسسات والتحجير عليها والتعقيد الحكومي لأعمالها ستحول أصحابها في النهاية من أرباب عمل إلى موظفين، بل على الأكثر إلى بطالة، تنتظر وظيفة توفر لهم، أو حافزا يقتاتون عليه، أو نظاما يتحايلون عليه.
إن وجود هيئة عامة للمؤسسات الصغيرة أصبح أمرا ملحا، وليس المطلوب أو المتوقع من هذه الهيئة أن تسلب الجهات الحكومية صلاحياتها أو مسؤولياتها، لكنها ستكون مسؤولة عن تهيئة السوق لهذا القطاع الصغير في شكله الكبير في حجمه، وستكون أولى أولوياتها الدفاع عن مصالحه، وتهيئة البنية النظامية للحفاظ على حقوقه وتسهيل أعماله، كما أنها ستكون مسؤولة عن التنسيق بين الجهات الحكومية المتعددة لخدمة القطاع، والأهم من ذلك الضغط لدعم ورعاية القطاع بالشكل المهني الوطني العادل.