أفضل بيئة عمل .. تعزف على جميع الأوتار
في استطلاع لمعهد غالوب (2013)، أظهر أن 53 في المائة من الأمريكيين غير راضين عن وظائفهم، فيما كشف استطلاع لموقع "مونستر" - قبل سنوات - أن 51 في المائة من الألمان غير راضين عن وظائفهم، وأنهم مضطرون لتغييرها والانتقال إلى جهات عمل جديدة، وكذلك الحال بالنسبة لـ 54 في المائة من النمساويين، و51 في المائة من السويسريين.
أما الاستطلاع الذي أجراه بيت.كوم (2012) بعنوان "الرضا الوظيفي في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا"، فقد أظهر أن42.1 في المائة من الموظفين في المنطقة غير راضين عن وظائفهم.
وتتفاوت أسباب عدم رضا الموظفين في الاستطلاعات الثلاثة، فالبعض كان يتذمر من قلة الراتب، والبعض الآخر كان يشكو من غياب التقدير والاحترام أو قلة فرص التدريب والتطوير الوظيفي.
على صعيد آخر، طلبت من المتدربين في أحد البرامج التدريبية، التقاط أقلامهم، ونزع ورقة من كراساتهم، ثم ترتيب ستة حوافز، كنت قد كتبتها على السبورة البيضاء: (1) التطوير الوظيفي، (2) التقدير والاحترام، (3) المزايا المالية، (4) المرونة في ساعات العمل، (5) الألفة والعشرة بين الزملاء، (6) الحصول على المزيد من المسؤوليات والتحديات داخل العمل.
أكدت على المتدربين عدم الالتزام بالترتيب الذي وضعته، وعليهم أن يرتبوا الحوافز الستة وفقا لأهميتها بالنسبة لكل واحد منهم، حيث يكون الأول هو الأكثر أهمية، نزولا إلى السادس الأقل أهمية.
منحتهم خمس دقائق لأداء التمرين، كنت أريد أن أعرف ما الذي يحرك أولئك المتدربين العشرين داخل بيئات عملهم، علما بأنهم متباينون في العمر والمؤهل والخبرة والحالة الاجتماعية، وما إن فرغوا من ترتيب الحوافز، طلبت منهم الوقوف من مقاعدهم، مستدعيا إياهم إلى مقدمة القاعة، لتلاوة القوائم التي أعدوها.
وبعد أن تلا كل متدرب قائمته بصوت مسموع، طلبت من كل واحد منهم أن يبحث عن متدرب آخر في القاعة يتطابق معه في ترتيب قائمة الحوافز، وكان أمامهم ثلاث دقائق فقط لإتمام عملية البحث، وسرعان ما تحولت القاعة إلى ساحة معركة، فثار غبارها، كل يبحث عن زميل مشابه له!
انتهت الدقائق المحددة، سألتهم: "هل وجد أي منكم زميلا تتطابق قائمته مع قائمتك؟"، كانت الإجابة، هي "لا"، ولم تكن إجاباتهم بالنفي غريبة، قلت لهم إن لكل منكم "تشكيلة خاصة" من الحوافز تحركه دون الآخر، فهناك من استهل قائمته بحافز التطوير الوظيفي، وهناك من بدأها بالمزايا المالية، وبينهما حوافز مختلفات.
ولهذا، تخطئ بعض المؤسسات حين تعزف على وتر واحد، قد يكون هذا الوتر "المزايا المالية" أو "المرونة في ساعات العمل" أو غيرهما، بل إن البعض منها يتصور أن أفضل حافز يمكن أن يحرك الموظف هو "المال"، وهذا ليس صحيحا، فما قيمة المال، إذا كانت بيئة العمل تفتقر إلى التقدير والاحترام؟ هل يمكن للمال أن يسكت الموظف أو يحفزه في بيئة تعامله معاملة سيئة، وتستنزف طاقته ليل نهار؟ عندئذ قد يصل بك الحال إلى رغبة التنازل عن نصف راتبك الشهري، والانتقال إلى بيئة عمل براتب أقل لكنها تعاملك كإنسان أولا، قبل أن تعاملك كموظف!
من وجهة نظري، إن بيئة العمل المثالية هي تلك التي تعزف على جميع الأوتار (الحوافز الستة)، كي تمكن كل "موظف" من أن يطرب على اللحن الذي يعجبه، فما يطربك قد لا يطربني، أو كما أقول دوما، إن لكل "موظف" نوعا مختلفا من "الوقود"، هو الذي يحركه، فالموظف الذي يشتغل بالوقود "أ" قد لا يستطيع أن يسير إذا تمت تعبئته بالوقود "ب"، بل ربما أدى هذا النوع الأخير من الوقود إلى تأثير سلبي في أداء الموظف ومعنوياته!
لذلك، تؤدي إدارات الموارد البشرية دورا محوريا في بناء بيئة العمل المثالية، من خلال وضع السياسات والبرامج والإجراءات التي تعتني بالموظف من جميع الأبعاد: المهنية والاجتماعية.
ويتضح ذلك الدور على سبيل المثال في النجاح الذي حققته شركة "أديداس" الألمانية - وهي ثاني أكبر شركة رياضية في العالم - ومكنها من الحصول على جوائز تقدير كإحدى أفضل بيئات العمل في العالم، حيث كانت الشركة تتسابق مع منافسيها - كما يتسابق الرياضيون الذين يرتدون ملابسها - إلى أن تكون أفضل بيئة عمل في العالم عن طريق تأسيس البيئة التي تحفز على الابتكار والعمل الجماعي والتعاون والإنجاز، وتمكنت الشركة بالفعل من إطلاق مواهب الموظفين ومكنتهم من الإبداع، مما أسهم في تحقيق النتائج التي تريدها الشركة.
أما المؤسسات والشركات السعودية التي نحتفي بها اليوم باعتبارها من أفضل بيئات العمل في السعودية، فقد استطاعت أيضا أن تصوغ بذكاء واحترافية "معادلة إسعاد الموظف وتحفيزه"، وبالتالي نجحت في رفع مستوى الرضا والأمان الوظيفيين عند مواردها البشرية، وجعلت نفسها محط أنظار خريجي الجامعات والباحثين عن عمل.
إذن، ألا يمكن لبقية مؤسساتنا الحكومية وشركاتنا الخاصة – لو كانت لديها إدارات موارد بشرية محترفة - أن تحذو حذو تلك النماذج السعودية الناجحة؟ هل من الصعب أن نتخلى عن أساليبنا القديمة في إدارة الموظفين والتعامل معهم؟ كم هي تكلفة استخدام وسائل "الترهيب الإداري" مع الموظفين مقابل استخدام وسائل "الترغيب الإداري"؟ هل يمكن أن نحرص بين فترة وأخرى على قياس رضا الموظفين لمعرفة توجهاتهم ورغباتهم ومشكلاتهم قبل أن تتفاقم الأمور، فنخسر المتميزين منهم؟ هي أسئلة ربما تبدو معقدة، لكن إجاباتها من شدة البساطة قد تحرج البعض!