لكيلا ننتج التاريخ من جديد
غالبا ما تواجه أي دعوى للتجديد سواء في الفكر السياسي أو الاجتماعي أو الديني بمواجهة سلبية وقاسية، وأما الأفكار أو النظريات الجديدة فتصل مواجهتها ورفضها للحروب وإزهاق الأنفس، ونستطيع ضرب عشرات الأمثلة من التاريخ القريب والبعيد، ليس أولها الخلافات الفقهية وليس آخرها الخلافات السياسية. إلا أن إنكار الأزمة الفكرية والسياسية والدينية التي نعيشها كعرب ومسلمين هي أشبه بمن يحاول طمس رأسه في تراب من الأوهام أو كمن يهرب من واقعه لوهم أبشع من واقعه. والتغيير في أي من الجوانب المشار إليها في مقدمة المقال يحتاج إلى الاعتراف أولا بوجود معضلة تعريفات فكرية وسياسية ودينية أدت بنا لما نحن فيه اليوم، أي أننا بحاجة إلى إعادة بسط التجربة الفكرية والتاريخية والاجتماعية وتفكيك عقدها بوضوح وشجاعة.
ما نعيشه اليوم هو نتيجة طبيعية لأحداث وأفكار وتفسيرات ورؤى ومفاهيم تاريخية، جاء بها أصحابها لمحاولة تعريف حياتهم وفهم ما حولهم، وقد جاءت أفكارهم ومفاهيمهم متأثرة بالنظريات التي حاولوا فهمها وتفكيكها وإعادة تركيبها بشكل يسهل عليهم تناولها وتطبيقها على الأرض. ومن قام بهذه العملية الفكرية الإنسانية الطبيعية هم بشر مثلنا لهم عقول وأفهام، أصابوا وأخطأوا، نجحوا وتعثروا بشكل إنساني طبيعي.
ونحن اليوم نعيش ظروفا مختلفة سياسيا وفكريا واجتماعيا ودينيا، وتحديات أكبر وأعقد، نحن نعيش ظروفاً تحتم علينا إعادة إنتاج تلك الأفكار والمفاهيم بشكل يناسب ويواكب عالم اليوم لا عالم الأمس، وهذا لا يعني بالضرورة إعادة إنتاج كل شيء، بل يعني إعادة تعريف هويتنا الفكرية والاجتماعية والسياسية، لكي لا نعيد إنتاج التاريخ بنفس مشكلاته وهمومه. نحن اليوم نعيش انسدادا تاما للأفق السياسي والاجتماعي في منطقتنا العربية، ونعاني إرهابا وقتلا يتلبس بلباس ديني، نعاني حركات إسلامية حركيّة أنتجتها ظروف قاسية، فتمثلت بقسوتها وصلافتها، وهذه الحركات لم تكن وليدة الصدفة أو نتيجة غير منطقية للتاريخ والتراث، بل أتت من رحم التاريخ السياسي والديني، ونمت في رعاية هذا التاريخ، واستقت من بعض مفاهيمه وأدبياته وإرهاصاته، فأتتنا بغبار الماضي ودمائه، لا إشراقاته ونجاحاته، أتتنا بسبي النساء والأطفال وقطع الرؤوس والقتل الجماعي، وأعادت تصدير أزمات الماضي المذهبية والسياسية للحاضر، حتى أصبح صوتها هو الأعلى، وذراعها هو الأقوى.
إذا أردنا اليوم إنتاج مستقبل مختلف لأولادنا وأحفادنا كعرب وكمسلمين وكبشر، علينا فهم تجربة من سبقنا، وإعادة تعريفها وتشكيلها لتناسب حياتنا نحن، لا حياة من سبقنا. وهذا يحتاج إلى الإقرار بأخطاء وعثرات الماضي وتركها للتاريخ وإنتاج أفكار تضعنا على الطريق الصحيح بشكل سلمي وحضاري، نحن نحتاج إلى شجاعة كبيرة وإرادة أكبر للولوج من التاريخ للحاضر وإنتاج مستقبل أفضل.