غزة.. ونظرية اللعبة
تهتم نظرية اللعبة Game Theory بدراسة وتحليل ووصف سلوك عدد من اللاعبين حول قضية معينة. وهي في الوقت نفسه نظرية استراتيجية لاتخاذ القرار، تهدف إلى الوصول للاختيار الأمثل من بين عدد من البدائل. بهذا فهي؛ نهج للتحليل بالنسبة إلى الأكاديميين من ناحية، وفي الوقت نفسه هي دليل أو مرشد لاختيار أفضل طريق للعمل بالنسبة لصانعي القرار السياسي.
قد لا تكون المساحة هنا كافية لرصد وشرح جميع عناصر هذه النظرية، ولكن الأهم فيها أنها تقرب بين واقع التنظير والتطبيق في مجال السياسة الخارجية وبين الواقع المعاش في ألعاب التسلية. بل إنها تذهب في فحواها على أن الفرق المتصارعة تلعب نوعين من أنواع اللعب: اللعبة الصفرية التي يعد أي مكسب يحققه طرف معين خسارة مقابلة بالنسبة للطرف الآخر، واللعبة غير الصفرية التي يكون لكل طرف فيها قدر من الربح أو الخسارة ولكن بنسب متفاوتة.
لقد جسد مسار العلاقات الدولية في الشرق الأوسط عددا من حالات هذه النظرية، ولكن أبرز الحالات المتصلة بموضوعنا (اليوم) متعلق بتطبيقات كل من إيران وإسرائيل هذا النهج. فلقد كانت هناك أمثلة واضحة في جل تصرفات طهران خلال السنوات الأخيرة. بل إن هناك تصرفات كثيرة لا تفهم إلا في سياق هذه النظرية؛ والأمثلة عديدة في سياق أزمة تخصيب اليوراينوم؛ كعملية احتجاز البحارة البريطانيين، وعملية المواجهة التي حدثت بين الزوارق الإيرانية وبين البوارج الأمريكية في مضيق هرمز. في المقابل، فإن ـ أغلبية تصرفات إسرائيل في السنوات الأخيرة لا تخرج عن السياق نفسه. بل إنه يصعب حصر أمثلة محددة من التصرفات الإسرائيلية في هذا الشأن، خصوصا أن أغلب (إن لم يكن جل) تصرفاتها تعد تطبيقاً لهذا المسار.
قد لا يكون تجمع إيران وإسرائيل حول مسار نظرية اللعبة في أحداث غزة مجرد مصادفة. بل قد يكون تاريخ تطبيقهما لهذا المسار شاهداً على ما يجري من أحداث مؤلمة. بجانبهما فإن "حماس" و"فتح" وما بينهم من صراع وتناقض مؤلم قد فعلا المسار نفسه. و دخلت أو أقحمت بجانب كل هؤلاء أطراف إضافية بما فيها حزب الله وغيرها من القوى، حيث فعل الجميع هنا مسار نظرية اللعبة، ولكن بأهداف وفلسفات مختلفة، حيث يلعب كل طرف النوع الذي يراه من أنواع اللعب. فاللعبة بالنسبة لإيران تسير وفق نسق غير صفري؛ ليس فقط تجاه إسرائيل ولكن تجاه الأطراف الأخرى في المنطقة. أما إسرائيل فهي تلعب بدورها لعبة صفرية ضد حماس وغير صفرية تجاه الآخرين. أما حماس - والمغلوبة على أمرها - فهي تخطط وتنفذ في واقع لعبة تريدها أن تكون غير صفرية، رغم أن الغير أراد عكسها، وهكذا الحال بالنسبة إلى الأطراف الأخرى.
وفحوى القول إن الجميع يتصرف في أحداث غزة وفق مسار يفهم ويفسر وفق نظرية اللعبة، والمصيبة أن معظم أهداف هذا المسار تسدد في مرمى أطفال ونساء وشيوخ ومستضعفي غزة، والكارثة أن أغلب الأطراف الدافعة - كما يبدو - مستمتعة باستمرار هذه اللعبة الفظيعة.