خير خلف لأزكى سلف .. كلمة حق يجب أن تقال

كيف يمكن لفقيه أن يدخل غمار الصناعة البنكية من أوسع أبوابها ويتسنم قيادة أهم وأكبر بنك مركزي في المنطقة ويبز أقرانه ويفوز على منافسيه الذين هم أوسع منه خبرة وأكثر منه تعليماً. من لا يعرف الأستاذ حمد بن سعود السياري يمكن أن يطرح مثل هذه التساؤلات.
#2#
بدأت معرفتي بالأستاذ حمد قبل أكثر من 43 عاماً على مقاعد الدراسة في دورات معهد الإدارة العامة فاشتركنا في الانخراط ببرامجه التي كانت تقدمها مؤسسة فورد Ford Foundation من أنظمة وبرمجة ولغة إنجليزية وميزانية وتخطيط....إلخ. ومن هناك انخرط الأستاذ حمد في القطاع المالي إلى أن تسلم قيادة مؤسسة النقد العربي السعودي قبل أكثر من ربع قرن. تعالوا ندلف إلى شخصيته ونعرف مناقبه إيفاءً لحقه وعرفاناً بجميله.
ففي أسلوبه في القيادة ربى جيلاً من القادة خرجهم صندوق التنمية الصناعية وخرجتهم المؤسسة والجميع يعرف أسماءهم وذلك عن طريق إرسالهم إلى أحسن الجامعات وأرقى الدورات التدريبية وإعطائهم المسؤوليات وتفويضهم الصلاحيات اللازمة للإدارة واتخاذ القرارات.
وضرب مثلاً في الإخلاص والتفاني في العمل والحضور في غير أوقات الدوام وتحمل ما يضاف إليه من المسؤوليات حتى خارج إطار مسؤوليته الوظيفية. فقد مثل المملكة في مؤتمرات ليست بالضرورة من مسؤولية محافظ المؤسسة وكلف بأداء مهام تتعدى ما يوكل عادةً لمحافظ المؤسسة. وكان يذهب بمفرده تقريباً أسبوعيا إلى سوق الخضار الشعبي ويسجل أسعار المواد الغذائية ويقارنها من أسبوع لأسبوع ومن شهر إلى شهر ومن سنة لأخرى ليتأكد بنفسه من أي تغيير في أسعار المواد الأساسية للمواطن، ولا يكتفي بذلك، بل في سفراته الدولية يذهب إلى أسواق الدول التي يزورها ليطمئن بنفسه على الأسعار التنافسية للمملكة.
ويعد الأستاذ حمد السياري قارئاً نهماً لكل شيء تقريباً في الأدب والشريعة واللغة العربية والاقتصاد وعلى الأخص في القطاع المالي والبنكي وفي مجال الطاقة. فكل مرة أزوره ألاحظ رزماً من التقارير مكدسة فوق المكتب وعلى الطاولات المجاورة. وعندما أسأله عن هذا التكدس يقول (الشفاحة ما بي معلومة تفوتني) والحقيقة أنه صادق. فقبل ثلاثة أسابيع اجتمعنا في بيت أحد الأصدقاء للاستماع إلى شخص من أكبر المستشارين في نيويورك ممن تستمع إليهم وزارة البترول والثروة المعدنية. وبعد أن انتهى هذا الخبير من إبداء وجهة نظره حول الأزمة الحالية وتأثيرها في القطاع البترولي وتوقعاته المستقبلية، بدأنا بمناقشته حول المعلومات التي أوردها وكان الشيخ حمد أقوانا حجةً وأطولنا باعاً وأوسعنا علماً وأكثرنا معقولية في طرح الآراء والتوقعات. فقد تحدث عن الصناعة البترولية الروسية وعن الوضع المالي الروسي حديث المطلع على أدق وأحدث التفاصيل وعن الاقتصاد الصيني والتحديات التي تواجهه وعن التغيرات الهيكلية المتوقعة في الاقتصاد الأمريكي...إلخ. مما أذهل الخبير الأمريكي وجعله يتراجع عن بعض آرائه ويعترف بأنه مستشار بترولي وعليه أن يكون متفائلاً حتى يحتفظ بزبائنه.
والأستاذ حمد مطلع على آخر الروايات ويحدثك عن آخر الإصدارات الأدبية حديث الأديب المتذوق لا حديث المتحذلق المتملق. فهو قليل الكلام يبعد عن الأضواء ويكره الظهور في وسائل الإعلام ومتواضع إلى أبعد حدود التواضع حتى إن من لا يعرفونه لا يأخذونه بجدية للوهلة الأولى لكنه إذا كان في وجه المسؤولية فِإنه ينبري لها بكل قوة وشجاعة متذرعاً بوضوح المنطق وقوة الطرح ومتسلحاً بالحقائق التي ينبهر منها مستمعوه ومتمسكاً برأيه الذي لا يحيد عنه مهما كانت الإغراءات ومهما كانت الضغوط ومهما كان التهديد. فهو الذي صنع نفسه وليس صنيعه لأحد. يتعب كثيراً في أداء عمله ويكد بلا ملل لتعليم نفسه وتطوير مهاراته والاطلاع على أحدث المستجدات حتى لا يفاجأ بشاب جديد يتفلسف عليه بشيء لا يعرفه. لقد احترم نفسه فاحترمه الآخرون. وقد لا توافق معه فيما يطرحه من آراء لكنك لا تملك إلا أن تحترمه لقوة حجته وحصافة رأيه وسلامة مسعاه.
وفي العلاقات الدقيقة بين مؤسسة النقد ووزارة المالية حافظ على استقلالية الجهاز الذي يديره وبنى علاقات احترام وتقدير مع من هو على رأس وزارة المالية. وهذا النموذج من المحافظة على استقلالية البنك المركزي وبناء علاقات عمل جيدة وحميمة مع وزارة المالية قل أن تجده في أية دولة أخرى.
إن إخلاصه لوطنه المملكة العربية السعودية ولقيادتها الرشيدة ليس محل شك أو تساؤل.
فقد قاد سفينة القطاع البنكي لأكثر من ربع قرن بكل نزاهة واقتدار وكان عفيف اليد مستقيم الخلق لا يجابي طرفاً على طرف ينسج العلاقات الشخصية مع أهم رؤساء البنوك وقادة المصارف المركزية ووزراء المالية في الدول المهمة ومع مسؤولي المؤسسات الدولية كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي وبنك التسويات الدولية والبنك المركزي الأوروبي وذلك لتوظيفها في مصلحة المملكة العربية السعودية. فالكل يحترمه ويستمع إلى رأيه.
لقد مثل بحق جيل المخضرمين الذين انتقلوا مع المملكة من سنوات الفقر والجهل إلى الانتقال إلى قلب العالم.
#3#
أما بالنسبة لخلفه الدكتور محمد بن سليمان الجاسر فلن أتحدث عنه كثيراً لأن شهادتي فيه مجروحة. فهو معروف من جميع الأوساط بما أظهره من فصاحة في التعبير ومن قدرة على شرح القضايا المعقدة ومن صفات قيادية في كل المجالات التي كلف بها. ويكفي أن أقول إنه إذا تحدثنا عن أبرز الاقتصاديين السعوديين فإنه أحد الاثنين (والثاني ليس كاتب هذا المقال). أرجو له التوفيق في مهمته الجديدة. فالتحديات كبيرة وخطوات الشيخ حمد متعبة لمن يحاول اقتفاءها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي