ندوة "أوبك": المملكة لم تعد رهينة لإمدادات الغاز المصاحب
نوه مجلس الوزراء الموقر في جلسته الماضية في ندوة "أوبك" التي عُقدت في قصر الأباطرة في فيينا الأسبوع الماضي من 18 إلى 19 آذار (مارس) 2009، تحت شعار "البترول: الاستقرار والاستدامة" Petrolum: Future Stability and Sustainability، وقد جاءت هذه المبادرة في محلها من أكبر الدول المصدرة للبترول وأكثرها وعيا بحاضر ومستقبل الطاقة، خصوصا والمنظمة تقترب من عامها الخمسين.
ولعل من المفيد لقراء هذه الجريدة من الجيل الذي لم يعاصر حقبة الخمسينيات والستينيات التي شهدت ولادة "أوبك" أن يعرفا أن "أوبك" (التي يعدها كاتب هذه المقالة أنجع منظمة أسستها دول لا تنتمي للعالم الصناعي) ولدت عبر مسلسل تاريخي بدأ بالتقارب الدولي بين حكومة المملكة العربية السعودية وفنزويلا من أجل تنسيق السياسات البترولية بين البلدين، ثم بدأ هذا التعاون ينمو ويشتد في عام 1959 عندما قامت شركة النفط البريطانية بتخفيض ما يعرف بالأسعار المعلنة في شباط (فبراير) بمقدار 18 سنتا للبرميل، ثم تلتها بقية الشركات ذلك العام دون التشاور مع الحكومات المنتجة، وفي العام نفسه في نيسان (أبريل) التقى عدد من ممثلي الدول المنتجة في ضاحية المعادي في القاهرة على هامش الدورة الأولى لمؤتمر البترول العربي الذي يعرف الآن بمؤتمر الطاقة العربي، واتفقوا على توقيع ما عرف في أدبيات "أوبك" بميثاق المعادي Al-Maadi Pact. وقد وقعته حكومة الجمهورية العربية المتحدة (الاسم المعتمد لمصر قبل عهد السادات) مع حكومات المملكة، فنزويلا، إيران، العراق، والكويت، ولم تنل استقلالها بعد، وفحواه التنسيق بين هذه الدول حول سلسلة من الآمال والتمنيات والمطالب، من أهمها اقتراح تأسيس هيئة للتشاور بين الدول.
وباستثناء هذه الفقرة، فإن ما تضمنه البيان وقتئذ لم يتعد ما ورد في قرارات مؤتمر البترول العربي الأول، كما يوضح أحد الأمناء السابقين لـ "أوبك"، وهو فرانسيسكوبارا في كتابه القيم عن التاريخ الحديث للبترول 2004. لكن هذا الميثاق وضع البذرة الأولى لقيام المنظمة. وفي آب (أغسطس) عام 1960، قامت شركة إكسون بتخفيض الأسعار المعلنة بمقدار 14 سنتا للبرميل، الأمر الذي أثر سلبا في دخول الدول المنتجة من الضرائب، أكثر من ذلك، فإن هذا التصرف من الشركات يعد تجاهلا سافرا لمصالح الدول المنتجة وامتهانا، بل وامتحانا لإرادتها السياسية، إذ إن التخفيض تم للمرة الثانية دون التشاور مع الحكومات، وفي أيلول (سبتمبر) من العام نفسه التأم شمل ممثلي الدول الموقعة على ميثاق المعادي (خلا مصر)، وأغلبهم لم يكونوا وزراء، وأنشأوا منظمة الأقطار المصدرة للبترول (أوبك). وأغلب الظن أن المؤتمرين آثروا استعمال عبارة الأقطار بدلا من الدول نظرا لأن الكويت لم تكن في ذلك الوقت دولة كاملة الاستقلال، ومعروف أن القانون الدولي يفرق بين الاصطلاحين.
ومع أن المنظمة قامت كرد فعل للتخفيض الثاني للأسعار المعلنة وما انطوى عليه من استخفاف بمصالح الدول المنتجة وكبريائها السياسي، إلا أن المؤتمرين كانوا أبعد أفقا مما يظنه من يحلو له النيل من "أوبك"، إذ إنهم عندما كتبوا ميثاق المنظمة حددوا أهدافها بما يلي:
1- التنسيق والتوحيد بين سياسات الدول الأعضاء البترولية، وتحديد أفضل السبل لحماية مصالحها فرادى ومجتمعين.
2- تسعى المنظمة إلى إيجاد مختلف الوسائل للمحافظة على استقرار الأسعار في الأسواق الدولية بغية تجنب التقلبات الضارة.
3- الاهتمام بما يلي:
أ- مصالح الدول المنتجة، وضمان دخل مستقر لها.
ب- إمدادات البترول للدول المستهلكة بشكل منتظم مع مراعاة الكفاءة والجدوى الاقتصادية.
ت- توفير دخل مجز للصناعة البترولية من جراء الاستثمارات التي يتكبدها المستثمرون.
جدير بالذكر أن العبارة الأخيرة وضعت عندما كان المستثمرون هم شركات البترول وليس الحكومات.
أما أسعار البترول المعلنة وما طرأ عليها من تخفيضات فقد عالجها المؤتمرون بالقرار الأول، الذي صدر عن أول مؤتمر للمنظمة، ومن الواضح أن سياسة المملكة البترولية خصوصا بعد قيام المنظمة تعتمد التوازن بين تنفيذ هذه الأهداف وما يرد في خططها الخمسية، وهو موضوع مستقل.
#2#
وتبقى مسألتان:
الأولى: أن كل ما قيل من ثناء في حق المرحوم الشيخ عبد الله الطريقي في نشأة "أوبك" هو في محله، ولعله يستحق أكثر من ذلك، لكن الأمر الذي يحز في النفس هو إغفال من كتبوا عن "أوبك" صاحب القرار السياسي، الذي دونه لم يكن للمنظمة أن تنشأ في ذلك الوقت، وهو الملك سعود – رحمه الله – وكلنا نعلم أنه هو الذي أنشأ أول وزارة للبترول والثروة المعدنية، وكانت سياسته الدولية جزءا من سياسة عامة من ملامحها الانفتاح على دول العالم وتسلمها زمام المبادرة فيما يتعلق بأمور ا لبترول ووضعها في مسار معتدل ما زالت المملكة تنتهجه، وقد جنت ثماره واستفاد منها الآخرون. ومن نافلة القول أن يؤكد من كان له شرف الاقتراب من عملية صنع القرار البترولي في المملكة أن دور القيادة العليا في صنع القرار كان ولا يزال دورا منشئا لا مقررا.
الثانية: إنه رغم أن "أوبك" ولدت في بغداد في ظل عهد عراقي يجنح نحو التطرف (نظام عبد الكريم قاسم) إلا أن موقف المملكة ومساهمتها في كتابة ميثاق المنظمة بشكل متوازن نأى بالمنظمة عن شرك التطرف الإيديولوجي، الذي تبناه البعض بشكل غير مدروس، وفوق هذا، فإن سياسة المملكة منذ التملك الفعلي ثم الرسمي لـ "أرامكو" سارت على نحو يجعل من أهداف أوبك حقيقة ملموسة.
ندوة أوبك
أشاد المجلس الموقر بندوة أوبك الرابعة، وصاحب هذه المقالة يتندر مع زملائه في "أوبك" إلى درجة تصل أحيانا إلى مرحلة العناد بأن هذه الندوة هي الخامسة، وأن المسؤولين في "أوبك" يغفلون، دون قصد، تلك الندوة التي نظمتها "أوبك" عام 1969، وهي في رأيي تفوق بعض الندوات التي نظمتها "أوبك" فيما بعد لسببين رئيسيين، أولهما: إن تلك الندوة استقطبت كبار الأساتذة والباحثين في شؤون البترول أمثال الأستاذة أديث بينروز، وتوم ستوفر، والريو بارا، وفؤاد روحاني، وفاروق الحسيني، وغيرهم. وقد حضرتها في ذلك الوقت متدربا لا مشاركا، ورأيت في تلك الندوة انفتاحا فكريا على العالم شعرت من خلاله بفخر كبير بانتمائي للدولة التي حملت العبء الأكبر في قيام "أوبك".
أما السبب الثاني، فإن الندوة الأولى عقدت في أواخر الستينيات، أي بعد ما يقرب من عشر سنوات على قيام "أوبك"، وكان الصراع في ذلك الوقت يحتدم بين الحكومات ممثلين في "أوبك" وشركات البترول العملاقة، بل إن نوايا الحكومات قد بدأت تطفو على السطح، فيما يخص مستقبل صناعاتها البترولية من تأميم أو مشاركة أو تأصيل لنظرية تغير الظروف في القانون الإداري وتطبيقها على عقود الامتيازات البترولية. لكن رئيس مجلس المحافظين الذي افتتح الندوة في حزيران (يونيو) من ذلك العام، وهو الأستاذ إبراهيم الهنقاري، وكيل وزارة النفط الليبية قبل ثورة الفاتح من أيلول (سبتمبر) اختتم كلمته الترحيبية مخاطبا الشركات قائلا بالنص: "إن لدى كل منا وجهة نظر أو قضية تجاه الآخر، فلنتفاوض.." ومحصلة القول إن "أوبك" تبنت هذا الأسلوب الحضاري في التخاطب مع الشركات على نحو ينسجم مع ما ورد في ميثاقها، وذلك منذ 40 عاما، وكانت الندوة الأولى هي منتدى ذلك الطرح.
أما الندوة الأخيرة التي وردت في بيان المجلس الموقر فهي بلا شك فريدة في ملامح كثيرة، فقد ضمت وزراء "أوبك" كافة بعد دخول دولتين في عضوية المنظمة، هما إكوادور، وأنجولا، وكان الوزير الأنجولي حاضرا في الندوة خلال كل الجلسات بصفته رئيسا لمؤتمر "أوبك" لعام 2009. وألقى كل من الوزراء بيانا تحدث فيه عن الوضع الراهن وسياسة حكومته البترولية. وكما هي العادة اختطفت كلمة وزير البترول السعودي، المهندس علي النعيمي، الأنظار لأسباب متعددة، فالوزير أبو رامي متحدث جذاب عندما يلقي باللغة الإنجليزية التي تعلمها منذ نعومة أظافره – مع أنني أشك إن كان له أظافر ناعمة في يوم من الأيام – وقد صقل هذه الموهبة في الإلقاء بعمله في "أرامكو" على مر السنين، علاوة على ذلك، فإن النص الذي يلقيه يعد بشكل لا يترك صغيرة ولا كبيرة إلا وفاها، يضاف إلى ذلك استعداده البديهي في الإجابة عن الأسئلة، ومن ذلك ما قاله إجابة لسؤال عن دور التكنولوجيا في زيادة الإنتاجية وزيادة معدل الاستخلاص، وضرب مثلا على ذلك بمشروع حقل الشيبة، الذي ازدادت إنتاجية البئر في من 2500 برميل فيه اليوم إلى أكثر من ست مرات. وعن الطاقة الإنتاجية، أكد الوزير أن بلوغ الطاقة الإنتاجية المعلنة 12.5 مليون برميل في اليوم، سيتحقق في حزيران (يونيو) المقبل. وعن دور "أوبك" وهي تقترب من الخمسين، أشار الوزير إلى أن "أوبك" الآن أهم من ذي قبل، وهو يشير إلى انحسار حصة المناطق الأخرى في الاحتياطي والطاقة الإنتاجية. وبدد الوزير الأوهام حول أن السياسة البترولية السعودية رهينة لإمدادات الغاز المصاحب، خصوصا عند انخفاض الطلب على الزيت الخام، إذ إن تطوير الغاز الحر أصبح كافيا لحاجات المملكة. ويمكن للقارئ أن يستنتج عديدا من الدروس من هذا التأكيد الذي صرح به الوزير خروجا عن النص.
وأخيرا، فإن ما يعرضه الوزير من وقت لآخر عن إنجازات المملكة، هي في فحواها تنويه بدور شركة أرامكو السعودية وبرامجها في تنمية وتطوير الطاقات البشرية في الوتيرة نفسها التي يتم بها تطوير الطاقة لإنتاج البترول والغاز.
في هذه الندوة أيضا رأينا الدور الإيجابي لشركات البترول في بناء جسور التفاهم بين المنتجين والمستهلكين، وشتان بين حقبة وحقبة عندما عقدت "أوبك" أول ندوة لها في عام 1969. جسد هذا المفهوم أحد المشاركين في ندوة 2009، وهو رئيس شركة إيني الإيطالية، إحدى الشركات الكبرى. وقد تحدث بأسلوب شائق عن السعر العادل للبترول وعلاقته بالبيئة الاستثمارية، بل اقترح إنشاء عقود طويلة الأمد بأسعار يتفق عليها لضمان الاستثمارات، وهذا التفكير يعد خروجا عن الخطاب القديم الذي اعتدناه من الشركات زمن المواجهة. والحقيقة أن من أهم الأسباب التي تجعل هذه الندوة تفوق سوابقها اتفاق الجميع على ضرورة استقرار الأسعار عند مستوى يحفز الاستثمار في بناء الطاقات الإنتاجية لجميع المنتجين.
أما صندوق الأوبك للتنمية الدولية "أُفيد" الذي أتشرف بإدارته فقد حظي بمكان فسيح ومكانة مرموقة في الندوة على نحو جسد العلاقة العضوية بين "أفيد" و"أوبك" كمنظمتين ترمزان لشعور دول أوبك بالمسؤولية الاقتصادية والاجتماعية على مستوى العالم.
قدم "أُفيد" نتائج الدراسة التي مولها وأعداها مع المعهد الدولي للعلوم التطبيقية في فيينا عن "الوقود الحيوي والأمن الغذائي" وتختبر الدراسة فرضية تحقيق أهداف الدول النامية والصناعية في سد احتياجاتهما من الطاقة في عام 2020، ودور الوقود الحيوي في قطاع النقل. وتفرق الدراسة بين مصدرين للوقود الحيوي يعرف أحدهما بالجيل الأول. وهو استخراج مادة الإيثانول التي تخلط في معظم الأحيان بالجازولين المستخرج من المواد الغذائية التي يستهلكها الإنسان. أما الجيل الثاني، فهو استخراج المادة نفسها من نباتات زراعية لا تدخل في غذاء الإنسان. ويستثنى من الجيل الأول استخراج المادة نفسها من قصب السكر، كما هو الحال في البرازيل، في أراض تروى بالأمطار ولا تنافس الأراضي الزراعية الأخرى. وتنتهي الدراسة التي راوحت ردود فعل جمهور الحاضرين حولها بين الإعجاب والجدل والاستنكار إلى أنه إذا تحققت أهداف الدول الصناعية والنامية في تطوير الوقود الحيوي في عام 2020، فإن ذلك سيؤدي إلى ما يلي:
1- ارتفاع أسعار المواد الغذائية بنسبة 30 إلى 50 في المائة فوق الاتجاه العام للأسعار.
2- زيادة المعرضين لمخاطر الجوع بمقدار 140 مليون نسمة.
3- فقدان 30 إلى 45 مليون هكتار من الأراضي المخصصة لإنتاج الغذاء البشري.
4- فقدان 15 – إلى 18 هكتارا من الغابات التي تسهم في تخفيض آثار التغير المناخي.
وإضافة إلى هذه الدراسة التي اشتركت مع بعض الزملاء في عرضها في الندوة، فقد شارك "أفيد" في الحلقة الختامية بورقة عن فقر الطاقة استندت إلى جهود الدول الأعضاء في "أُفيد" في محاولة القضاء على ما يعرف بفقر الطاقة، وهو اعتماد كثير من سكان الدول النامية على مصادر الطاقة البدائية (مثل الحطب والجلّة) بنسبة تصل أحيانا إلى 90 في المائة، وانطلقت ورقة أُفيد من بيان قمة "أوبك" المتميز، الذي استضافه خادم الحرمين الشريفين في تشرين الثاني (نوفمبر) 2007، في مدينة الرياض، حيث أبدت "أوبك" استعدادها للتعاون مع المؤسسات المالية وشركات الطاقة في مساعدة الدول النامية على سد احتياجاتها من مصادرة الطاقة الحديثة، وعرضنا بشكل موجز نتائج أعمال الورشة التي نظمناها لهذا الغرض في مدينة أبوجا، عاصمة نيجيريا في حزيران (يونيو) 2008، وأهمها فشل السوق في حل مشكلة الطاقة عند الفقراء وضرورة التدخل من قبل الحكومات والهيئات الدولية.
ولم يكن من الممكن التطرق لهذا الموضوع من دون الاعتراف بالدور الذي أسهمت وتسهم به مبادرة الملك عبد الله، التي أطلقها في جدة يوم 22/6/2008 باسم الطاقة للفقراء، ودعا فيها البنك الدولي وغيره من المؤسسات لتبني هذا المشروع، الذي يتولاه البنك الدولي حاليا كرأس حربة يعاونه في ذلك صندوق الأوبك "أُفيد" والصندوق السعودي للتنمية، ويعمل "أُفيد" على تحويل مبادرة خادم الحرمين الشريفين إلى برنامج عمل ينفذ من خلاله مشاريع الطاقة في دول جنوب الصحراء الإفريقية بحيث تحصل تلك الدول على تمويل تتعدى نسبة المنحة فيه النصف.. ومعروف أن "أُفيد" الذي تسهم فيه المملكة بالنصيب الأكبر خصص منذ قيامه في 1976 ما يقرب من 20 في المائة من نشاطه لمشاريع الطاقة في الدول الفقيرة.
أرجوا أن يسهم هذا العرض في إبراز أهمية ندوة "أوبك" على نحو يوضح الأسباب التي حدت بمجلس الوزراء السعودي الموقر إلى أن ينوه بتلك الندوة، ودور المملكة على وجه العموم في تحقيق الاستقرار في السوق البترولية "عن طريق مواصلة مسيرتها الاستثمارية بعيدة المدى لزيادة الطاقة الإنتاجية للنفط والغاز على الرغم من الوضع الاقتصادي الراهن والتحديات التي تواجه قطاع الطاقة". كما ورد في بيان المجلس الموقر.