المعرفة وقيادة العالم

لو ألقينا نظرة فاحصة على ما يدور في أروقة العالم اليوم وعلى الخصوص لدى المجتمعات المتطورة صناعيا والحائزة على قصب السبق في مضمار بناء تكنولجيا تستند إلى الرقمنة والذكاء الإصطناعي، لخرجنا على الأرجح بمحصلة مفادها أن مفتاح قيادة الأرض والسيطرة عليها هي المعرفة قبل المال.

مع ذلك علينا التركيز على العلاقة بين التكنولوجيا والمال. لقد برزت في العقود الثلاثة الأخيرة – وهي فترة قصيرة جدا في مسار التاريخ البشري – معادلة ربما لم تكن في الحسبان أبدا.

العلاقة بين المال والمعرفة ليست علاقة مساواة أو تعادل، بمعنى أن الاثنين ليسا نظيرين. وهذه المعادلة غير المتناظرة قلبت أسس تراكم الثروة والتنمية الاقتصادية وبناء المجتمعات، أو بالأحرى أغلب النماذج الإقتصادية التي تجعل رأس المال محور النمو الإقتصادي.

لا يجوز التقليل من شأن رأس المال، ولكن النماذج الاقتصادية تظهر أن بروز عمالقة التكنولجيا الحديثة التي صارت عماد الاقتصاد في قرننا هذا لم يكن مبنيا على توافر المال.

وهناك قصص تشبه الخيال حول نشوء شركات تكنولوجية حديثة في مرائب لا تصلح للسكن، وإن الذين أقاموا أول لبنة لهذه الشركات لم يملكوا في حينه من المال ما يكفي لإيوائهم في شقق سكنية متواضعة بل كانوا يبيتون في المرائب ذاتها.

والأنكى فإن أغلبهم غادر الصفوف الدراسية دون الحصول على الشهادة الأكاديمية في اختصاص معرفي يؤهلهم للعمل في شركات تكنولوجية حديثة.

قصص الرواد المؤسسون للشركات التكنولوجية العملاقة الحديثة تقترب من قصص الخيال العلمي. من النادر أن ينبئنا التاريخ بشخص ليست محفظته خالية وحسب، بل ربما لا يحلم بحمل محفظة في جيبه ويعيش في مرآب لعدم قدرته دفع ريع الإيجار يصبح واحدا من أغنى أغنياء الدنيا ويكون صاحب شركة قيمتها السوقية تبز قيمة الإنتاج الوطني الإجمالي لدولة عظمى مثل بريطانيا وفي غضون عقدين أو ثلاثة.

ليس هناك حاجة للدخول في تفاصيل سيرة حياة هذه الشركات وأصحابها. تحدثنا عنها بإسهاب في هذا العمود وقد سُطرت عنها، ولا يزال ما لا يحصى من المقالات وعدد كبير من الكتب.

هناك دروس على كل من يحاول أن يحذو حذوها الأخذ بها، ومن أهمها أن المال الوفير، رغم أهميته، ليس شرطا للابتكار والنجاح المذهل الذي حققته هذه الشركات لما كان يتحقق في غياب الابتكار.

كل ما فعله الرواد المؤسسون لهذه الشركات التي صارت أخطبوطا يلف العالم، أنهم من خلال ما هو متوافر من إمكانيات متواضعة جدا خلقوا شيئا جديدا أو بالأحرى أضافوا قيمة وذكاء وممارسة جديدة لم تكن متوافرة في السابق ما منح منتج ما بعدا واستخداما مبتكرا.

والدرس الآخر لا يقل أهمية وهو مرتبط بالسياق والبيئة اللتين تؤديان دورا محوريا في تنمية الإبتكار. وكي نلقي الضوء على هذا الدرس علينا إثارة الدهشة ومن ثم أسئلة محددة حول إن كان الشخص المبتكر الذي انزوى في مرآب وصل إلى ما وصل إليه إن عاش في بيئة وسياق مختلف.

من الممكن الإسهاب في الحديث عن السياق والبيئة، ولكن في غيابهما لن يتمكن أي مبتكر مهما كانت درجة الذكاء التي يحملها من تحويل أفكاره المبتكرة إلى أشياء أو بضائع جديدة تقدم خدمة مبتكرة يتهافت الناس عليها، كما هو شأن المبتكرات التي تقدمها لنا هذه الشركات دون كلل وممل وبسرعة خارقة.

الدرس الثالث يخص بناء مقدرة لدى الناس على اقتناء ناصية المعرفة والتعلم التكنولوجي ذاتيا. المبتكر ليس في الضرورة أن يحصل على شهادة عالية من جامعة راقية، رغم أهمية الجامعات. الابتكار موهبة، إن توفرت لها الظروف في الحدود الدنيا لانطلقت وغيرت الدنيا.

رغم اختلافنا أو اتفاقنا مثلا مع السياسات التي تنتهجها الولايات المتحدة، إلا أن هذا البلد يتفوق حتى الآن على دول العالم برمتها في الدروس الثلاثة، ومن هنا نجاحه التكنولوجي الخارق الذي من خلاله يدير الكوكب الذي نعيش عليه.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي