استطالة مرحلة الانتعاش تزيد من التحديات الاقتصادية
أواصل اليوم حديثي الذي بدأته الأسبوع الماضي حول الإشكالات الاقتصادية التي نواجهها حاليا بسبب استطالة مرحلة الانتعاش ضمن الدورة الاقتصادية للاقتصاد السعودي، مع مواصلة أسعار النفط الخام ارتفاعها الذي بدأ في عام 1999، والذي لا يزال مستمرا مع وصول سعر البرميل نهاية الأسبوع الماضي إلى 100 دولار. ففي السابق كان يترتب على ارتفاع أسعار النفط الخام تراجع في الطلب العالمي على النفط يدفع الأسعار إلى التراجع بعد كل ارتفاع في أسعار النفط الخام، ما يحد من طول فترة الانتعاش ضمن الدورة الاقتصادية في اقتصادات الدول المنتجة للنفط، وبالتالي تمنح اقتصاداتها فرصة لالتقاط الأنفاس وتصحيح الاختلالات التي من الطبيعي ظهورها عند حدوث فورة قوية في النشاط الاقتصادي في ظل وفرة غير عادية في الموارد المالية. أما الآن وفي ظل مواصلة أسعار النفط الخام ارتفاعها وعدم ظهور أي بوادر على تراجع في الطلب العالمي على النفط، فإنه لا يتوقع حدوث تراجع حاد في أسعار النفط، وبالتالي استمرار فترة الانتعاش وعدم مرور اقتصادنا بدورة اقتصادية كاملة في المدى المنظور. هذا الوضع غير العادي والجديد علينا، ورغم كل ما يحمله من إيجابيات هائلة على اقتصادنا، إلا أنه يحرم اقتصادنا من امتلاك أي قدرة ذاتية على تصحيح الاختلالات التي يمكن أن يتعرض لها، وهي اختلالات طبيعية متوقعه يمكن أن تعتري أي اقتصاد يتعرض لدورة اقتصادية تتصف بالحدة والقوة كالتي نمر بها حاليا بسبب النمو الهائل والسريع في إيراداتنا النفطية، حيث إن التتابع الدوري لمراحل الدورة الاقتصادية المتعاكسة يضمن أن تصحح كل مرحلة تجاوزات واختلالات المرحلة التي تسبقها.
ما يعني أن إدارة اقتصاد ينعم بوفرة مالية مستمرة لفترة طويلة، وعلى عكس ما قد نتصور جميعا، قد تكون حتى أكثر صعوبة من إدارة اقتصاد يعاني نقصا شديدا في الموارد، حيث يتطلب هذا الوضع من الأجهزة المسؤولة عن الشأن الاقتصادي، وفي مواقعها المختلفة، أن تكون يقظة تماما لأي اختلالات تظهر في النشاط الاقتصادي لتكون جاهزة للتدخل السريع لمعالجتها من خلال تبني سياسات تضع كوابح اصطناعية مناسبة تعوض الاقتصاد عن غياب الكوابح الطبيعية الذاتية التي توفرها له عادة الدورة الاقتصادية. فتقلبات الدورة الاقتصادية تجعل الوضع الاقتصادي يسهم في تسهيل مهمة الإدارة الاقتصادية، حيث يأخذ التصحيح الذاتي للاقتصاد الاتجاه نفسه الذي تأخذه الإجراءات الإصلاحية التي ستضطر الإدارة الاقتصادية إلى تبنيها مع تراجع الموارد المالية. أما في حال استطالة مرحلة الانتعاش، فإن الاقتصاد سيصبح في حاجة إلى كوابح تقف في وجه الاتجاه الذي يسير فيه، ودونها ستكون التجاوزات والاختلالات التي يعانيها الاقتصاد سببا في اختزال وتلاشى معظم مكاسبه الاقتصادية المترتبة على الوفرة المالية، ويلزم أن تكون القرارات في هذا الشأن في الوقت المناسب وقبل فوات الأوان، ولن تجدي نفعا وتصبح المقاومة التي تواجهها أقوى.
النمو الهائل في مستويات السيولة المحلية وما نتج عنه من ارتفاع كبير مبالغ فيه في سوقنا المالية ثم انهيارها الحاد مع إمكانية تكرار كل ذلك مجددا، الارتفاع الكبير والمتسارع في معدلات التضخم، المبالغة الشديدة وغير المنطقية في تقييم مختلف الأصول المالية حيث يتم إدراج شركات في سوقنا المالية بعلاوات إصدار متضخمة جدا تجعلها مقومة بأضعاف قيمتها الحقيقية، الارتفاع الكبير في أسعار العقارات والأرضي، الارتفاع الكبير في أجور العمالة الأجنبية وتزايد ظاهرة هروبها، والارتفاع الهائل في تكاليف المشاريع الحكومية الذي يتسبب في هدر الموارد الموجهة لمشاريع البنية التحتية ويقلل من القيمة الحقيقية لما يحققه هذا النمو الهائل في حجم الإنفاق الحكومي على المشاريع، هي مجرد نماذج فقط من الأوضاع الخطيرة المتفاقمة المترتبة على استطالة مرحلة الانتعاش التي نمر بها حاليا، والتي تستدعي أن نكون يقظين تماما لخطورتها وتأثيرها السلبي المتنامي في اقتصادنا الوطني، في ظل توقع عدم مرور اقتصادنا بفترة تراجع توقف كل هذه الاختلالات. كل الدلائل تشير إلى أن هذه الاختلالات تسهم بشكل واضح في الحد من مكاسب الطفرة الاقتصادية التي نعيشها، من خلال تسببها في تراجع معدلات النمو الاقتصادي في السعودية عاما بعد آخر، رغم كل ما نتمتع به من وضع إيجابي يؤهلنا لتحقيق معدلات نمو اقتصادي مرتفعة جدا. فبعد أن كان معدل النمو الحقيقي في ناتجنا المحلي الإجمالي يبلغ 6 في المائة في عام 2005، تراجع في عام 2006 إلى 4.3 في المائة فقط، كما أنه وفقا لبيان وزارة المالية بمناسبة صدور ميزانية عام 2008 يتوقع أن يكون هذا المعدل قد تراجع أيضا عام 2007 إلى 3.5 في المائة فقط، وهي معدلات نمو متدنية تؤكد وجود خلل واضح في أداء اقتصادنا وحاجتنا الماسة إلى مراجعة سريعة لسياساتنا الاقتصادية كي تصبح أكثر فاعلية في معالجة اختلالات اقتصادنا الوطني، ما يسمح بتحقيق اقتصادنا معدلات نمو تتناسب مع وضعنا المالي المتميز جدا.