مبادرة جامعة الأزهر لتعريب الطب
انتشرت في وسائل التواصل وكذلك في الصحف خبر مبادرة جامعة الأزهر في مصر لتعريب الطب وعلوم الصيدلة، وتباينت الآراء بشكل غريب جدا، وكأن كتاب القانون في الطب لابن سينا لم يكن بالعربية، وكتاب الحاوي في الطب للرازي لم يكن بالعربية، وكتاب المنصوري في الصيدلة لم يكن بالعربية، وغيرها لن تسعه هذه المساحة لحصرها، هو المستنكر أن يكون التدريس في الطب بكتب عربية حديثة حتى نعيد إحياء المسار الذي توقف منذ قرون.
العلم ليس حصرا على لغة ولا شعب، ولا يمكن للبشر أن يتقدموا في العلم بلغة واحدة. ولن تنهض حضارة وهي مسجونة في رموز حضارة أخرى، ولو حصل بعض التقدم فهو تشكل كاذب كما صوفه اشبنجلر الفيلسوف الألماني. اللغة ليست وسيلة نقل للمعرفة محايدة، بل هي مخزن للثقافة، إنها تشبه العملة في الاقتصاد فهي ليس وسيلة للتبادل فقط، بل هي أيضا مخزن للثروة، وإذا كنا نريد تعظيم عملة ما فإننا نعظم اقتصاد دولتها، وهذا صحيح أيضا في شأن اللغة، هي عملة الثقافة والحضارة، فإننا إذا عظمنا لغة قوم عظمنا حضارتهم وبالتالي قوتهم واقتصادهم.
العربية لغة تعدُّ مخزن ثقافي وليس مجرد كلمات، لذلك فمن الصعب التعبير عن فلسفتنا للحياة دون استخدام لغتنا، وإذا كنا تجربة شخصية مع المستشفيات في عدة دول أجنبية، حيث لم يكن في مستشفياتها من يحدث الإنجليزية ولا العربية فقط لغتهم، فإن تعليم الطب بالعربية بل وتعليم كل التخصصات بالعربية هي مسألة تنافس حضاري، ومع ذلك فإنني بحكم التخصص سأقدم أمثلة توضح إلى أي مدى يمكن للأسر اللغوي أن يوثر في سلوكنا.
ولقد ناقشت هذه المسألة من قبل في عدد من المقال عندما أثرت قضايا تتعلق بترجمة المعايير الدولية للمراجعة الخارجية، فالترجمة ليست التعريب، التعريب أبلغ وأعمق وأكثر ارتباطا بالثقافة. فمثلا كلمة ارتباط هي ترجمة لكلمة Engagement في الإنجليزية، وهي تصف العلاقة التعاقدية بين المراجع وبين العميل، لكن عندما نحاول إيصال هذا المفهوم بالعربية للطلاب فإن مفهوم الارتباط يأخذ أبعادا ثقافية أكبر من مجرد علاقة تعاقدية وهنا يصعب إيصال الأفكار.
وهناك مفهوم لا يقل قلقا، هو مفهوم الحكم الشخصي Personal Judgment، وهو يترجم بمعنى الحكم الشخصي، لكن في الثقافة العربية "قد" يعني الاجتهاد، والاجتهاد غير الحكم، لكن هل هذا المقصود في المهنة؟ وهل نمارس الحكم أم الاجتهاد في البيئة العربية؟ وإذا كان المقصود غير ذلك في المهنة عند الغرب، فأي الممارستين صحيحة؟ فالمسألة ذات بعد ثقافي ولا شك.
من الملاحظات في النص الإنجليزي للمعايير الدولية مثلا: عدم استخدام الضمائر، بل يتم استخدام كلمة المراجع ولو تعددت في السطر الواحد مرات عديدة. لذلك عندما تتم الترجمة للعربية يفقد النص كثيرا من قوته التعبيرية ويصبح مملا جدا للقارئ، بل أحيانا غير مفهوم وخاصة أن استخدام النكرة في العربية غير استخدامها في الثقافات الأخرى وخاصة الإنجليزية، فإذا تكرر اسم نكرة في جملة فإن الاسم الثاني يدل على المغايرة. فإذا قلت مثلا "على مراجع الحسابات أن يقوم بما يلي"، ثم قلت "على مراجع الحسابات أن يفعل كذا" في نفس المقام، فإن المراجع الأول ليس هو المراجع الثاني في السياق وكان هناك أكثر من مراجع للمهمة الواحدة وهذا غير صحيح.
لكن عندما تتأمل لماذا اتجه النص الإنجليزي لهذه التكرارات المملة تجد الفلسفة الغربية النسوية لها تأثير واضح، ذلك أن الضمائر في النص الإنجليزي تعود إما لذكر أو أنثى وهذا ما يحاول النص تجنبه لهذا يستخدم اسم المراجع هكذا (Auditor) لأنه محايد في النص الإنجليزي فلا يمكن تأنيثه ولا تذكيره.
هذا خلاف النص العربي الذي يشير فيه اسم المراجع لجنس الذكر بينما عند الإشارة للأنثى يقال المراجعة، لذلك فإن استخدام الاسم دون الإشارة للضمائر لا يعالج ما يريد النص الإنجليزي معالجته وليس من المطلوب معالجته لدينا، هكذا تبدو كمسألة ثقافية أساسا، ونحن عندما نترجم فقط (ولا نعرب) فإننا ننقل مكونات ثقافية شئنا أم أبينا.
لذك فإن تحرير الفكر العربي يتطلب تعزيز الهوية العربية في النص وهذا لا يحدث دونما استقلالية معرفية تبدأ من تعريب المعارف باللغة العربية وليس ترجمتها، وتعريب المهن في المنظمات، وتعزيز البحث العلمي وإنتاج المعرفة باللغة العربية.