أمننا المائي أولى من أمننا الغذائي
قد لا نستطيع تخزين كمية كافية من المياه لتلبية احتياجاتنا لمدة شهر واحد فقط، إلا أننا بكل تأكيد نستطيع تخزين ما يكفي لمواجهة احتياجاتنا لعدة سنوات من مواد غذائية ضرورية كالأرز والقمح، ما يعني أن أمننا المائي أهم بكثير من أمننا الغذائي ويجب أن تكون له دوما الأولوية، وأن استنزاف مواردنا المائية الشحيحة وغير المتجددة في ري جائر عشوائي لمحاصيل تتطلب أصلا كميات هائلة من المياه، ناهيك أن تسقى بطرق بعيدة كل البعد عن أدنى إحساس بالأهمية الاستراتيجية لمواردنا المائية، هو هدر غير مقبول يظهر مدى حاجتنا الماسة إلى مراجعة شاملة عاجلة لاستراتيجيتنا الزراعية.
الخبر الذي أوردته "الاقتصادية" أخيرا حول وجود قرار استراتيجي للمحافظة على المياه من خلال تخفيض تدريجي لمشتريات الدولة من القمح المنتج محليا بنسبة 12.5 سنويا، ومنع تصدير بعض المحاصيل الزراعية المستنزفة للمياه، وتشجيع استخدام أساليب ري حديثة موفرة للمياه، هو دون شك، إن تأكد، قرار حاسم مهم، ويمثل نقلة نوعية في تعاملنا مع مشكلة ندرة مواردنا المائية وضرورة اتخاذ كل ما يلزم للمحافظة عليها. ولعلنا جميعا نتذكر الحملة التي قامت بها وزارة المياه والكهرباء قبل نحو عامين، وحظيت بتغطية إعلامية واسعة، وقيل إنها تهدف إلى الحد من هدر المياه وتشجيع الحد من الاستهلاك غير المبرر له، إلا إنها لم تكن مجدية على الإطلاق باعتبار أنها تجاهلت تماما حقيقة أن استهلاك القطاع الزراعي من المياه يشكل ما يزيد على 89 في المائة من إجمالي استهلاك المياه في المملكة، وبالتالي فأي محاولة لترشيد استهلاك المياه في المملكة لا تستهدف أيضا التصدي والحد من هدر المياه في القطاع الزراعي هي حملة لا معنى لها وهامشية التأثير. فتقديرات وزارة المياه والكهرباء تذكر أن التمرة الواحدة على سبيل المثال يستهلك إنتاجها 50 لترا من المياه، والنخلة الواحدة تستهلك 250 مترا مكعبا سنويا أو ما قد يعادل استهلاك عائلة مكونة من خمسة أفراد لعام كامل، بالتالي لو نجحنا في تخفيض هدر المياه في القطاع الزراعي بنسبة 25 في المائة فقط، وهذا ممكن جدا بجهد بسيط، فإن هذا الخفض سيعادل أكثر من ضعف إجمالي الاستهلاك المدني للمياه في المملكة.
ما يؤكد حاجتنا الماسة لتبني استراتيجية زراعية واضحة الأولويات تأخذ في الحسبان ما نعانيه من شح وندرة في الموارد المائية وتخدم مصلحة بلادنا على المدى الطويل دون أدنى اعتبار للمصالح قصيرة المدى أو محدودة النظرة، يوصل إليها من خلال مشاركة كل القطاعات المعنية والهيئات العلمية والجامعات وحتى ممثلي القطاع الزراعي، تحدد من خلالها الأولويات الوطنية طويلة الأمد وما يجب اتباعه من سياسات متوازنة تضمن المحافظة على مواردنا المائية وتحد من الهدر غير المبرر ولا المقبول في ري مزروعات غير ضرورية أو تنتج بكميات غير اقتصادية. وبموجب هذه الاستراتيجية تتحول الوزارات المعنية في الدولة كوزارة الزراعة ووزارة المياه والكهرباء إلى مجرد أجهزة تنفيذية تقوم بأداء مهام محددة بوضوح تام، وليس من حقها تجاوزها أو تغييرها، ومن ثم لا يمكن أن تلام أو تتهم بمحاباة أو محاربة قطاع معين. وتكون الاستراتيجية من الوضوح، حيث يعرف كل من سيتأثر بها بالخيارات المتاحة أمامه كافة والصعوبات أو العقبات التي ستواجهه نتيجة تطبيقها مستقبلا، فلا يتورط في مشاريع واستثمارات قد تفشل بسبب تعارضها مع الحاجة إلى المحافظة على الموارد المائية أو تقنين استخدامها.
وتبني مثل هذه الاستراتيجية يتطلب شفافية كاملة فيما يتعلق بمصادر المياه وكمياتها والاستثمارات المطلوبة لتلبية احتياجات الاستهلاك الزراعي والمدني من المياه في السنوات المقبلة، بحيث لا يدعي أحد أن تحت أرضنا احتياطيات مائية هائلة تعادل تدفق نهر النيل لمدة 500 عام ولا داعي للقلق أو التخطيط الاستراتيجي، أو أن نبالغ في الخطر المحدق بنا ونشعر بالهلع خوفا من استنفاد تلك الاحتياطيات في سنوات قليلة. وهذه الاستراتيجية ضرورية لضمان توائم وتناغم السياسات المتبناة من قبل الأجهزة التنفيذية المختلفة في الدولة. فمن غير المقبول في الوقت الذي تسعى فيه وزارة المياه لترشيد استهلاك المياه أن تقوم وزارة الزراعة مثلا بتشجيع غرس المزيد من النخيل من خلال تقديم الإعانات والقروض، ما يتسبب في استنزاف كميات هائلة من المياه وارتفاع كبير في فائض إنتاج البلاد من التمور في السنوات القليلة المقبلة بما يلحق بالغ الضرر بالمزارعين ومستثمري القطاع الزراعي، أو أن يتضخم حجم إنتاجنا من بعض المزروعات بما يفوق كثيرا حاجة الاستهلاك المحلي في بلد صحراوي يفتقر إلى الموارد المائية نتحول معه إلى بلد مصدر لمنتجات مستنزفة مهدرة لمواردنا المائية.