ترجل الفارس وقدم لنا ثقافة الاستقالة
حينما يغادر المسؤول خصوصاً (الوزير) كرسي وزارته قبل انتهاء فترة حقيبته، يصبح عرضة للشائعات والأقاويل، وأول شائعة تصيبه في ظهره قبل أن يغادر باب الوزارة، أن هناك خلافاً بينه وبين صانع القرار! وفي اعتقادي أن الوزير هو فارس في ساحة المعركة، اختاره (القائد) بناء على كفاءته ومؤهلاته، وأعطى له الثقة وترك له حرية اتخاذ القرار بـ (الكر) و(الفر).
الدكتور هاشم يماني الذي استطاع أن يقهر علوم الرياضيات في جامعة بيركلي، ويجتاز الفيزياء من جامعة هارفارد، ويوقع دخول المملكة العربية السعودية العضو 149 في منظمة التجارة العالمية، وجمع أصعب وزارتين منذ أيار (مايو) 2003، وهي التجارة والصناعة التي كانت هماً في النهار وغماً في الليل.
فكم تمنيت أن أشارك بقلمي على الأقل دفاعاً عن الوزير المتفاني الدكتور هاشم يماني أثناء المعركة الإعلامية ما بين الوزارة والمستهلك، ولكن الوزير هاشم يماني خذله رجال الأعمال أكثر من الإعلام الاقتصادي، مع أنه كان يصنف الأكثر (شعبية) بين الصناع والتجار، لذلك تيقنت بأن مقالتي له، ستكون كقطرات ندى وسط طوفان من الغضب الشعبي.
هاشم يماني أيها الوزير المتواضع والمؤدب، يشهد لك التاريخ في الشهر السادس من عام 2003، تصريحاتك التحذيرية، والتي أطلقتها من غرفة المدينة المنورة ومن غرفة جدة أمام التجار والصناع، وقلت إن انضمام السعودية إلى منظمة التجارة العالمية يعني مزيدا من الانفتاح، وطلبت من الصناع بتكتل صناعي لحماية المنتجات الوطنية من الإغراق، وكذلك طلبت من التجار الاستعداد لمعركة ارتفاع الأسعار خاصة من المنتجات التي تأتي أوروبا، وذكرت لنا أن هناك معركة تجارية قاسية يجب أن تتضافر فيها الجهود، وتصريحاتك ما زالت في أرشيف وكالة الأنباء السعودية، وفي مواقع الجرائد المحلية، والذي توقعته يا معالي الوزير منذ سنوات جاءنا مثل السيل الجارف يأكل الأخضر واليابس، وضاعت تحذيراتك سدى في خضم الهجوم الإعلامي على حرب الأسعار.
يكفيك يا معالي الوزير أنك أسهمت خلال الأعوام الخمسة الماضية في أن تكون الغرف التجارية والصناعية في السعودية، واحدة من أكثر المؤسسات شبه الرسمية تفاعلا مع المجتمع المدني، ودون مبالغة نجحت في تحويل الغرف التجارية إلى ترمومتر النشاط التجاري والصناعي والاجتماعي في كل مدينة كبرى أو صغرى، وأصبحنا في عهدك منطلقا لأي تجمع استثماري، وقدمت للمجتمع السعودي خلال الأعوام الماضية بعض الشباب القياديين واخترتهم أعضاء للغرف التجارية، لتكون المرحلة الأولي لصقل أدائهم وكفاءتهم ليكونوا بعد ذلك أعضاء في كثير من الهيئات والمجالس واللجان الحكومية ومجلس الشورى.
الوزير هاشم يماني، جعل من الغرف التجارية والصناعية عضوا فعالا في المجتمع تجتمع فيها فعاليات قطاع الأعمال، وجعل العلاقة بين الوزارة والغرف التجارية تمارس نوعا من المرونة في علاقتها لا ترتكز إلى الشكليات والبروتوكولات، واستقبال الوفود، بل انتقلت إلى عمق العمل الاقتصادي، واستطاعت بذكاء استثمار تطور الغرف التجارية بجعلها مكانا قياديا ليس فقط في تنسيق العلاقة مع القطاع الخاص، بل أيضا تركت لها مساحة في أن تتولى الترخيص لبعض الأنشطة التي تكون الغرف قريبة منها ولصيقة وأدرى بحالها, بدلا من أن يترك الأمر لاجتهاد موظف حكومي قد لا يتعامل معه إلا من خلال الأوراق والتوقيعات والأختام.
يكفيك يا معالي الوزير أنك أسهمت في مستقبل النشاط الاقتصادي للسعودية من خلال مؤسسات اقتصادية ذات البنية القوية التي توفرها الشركات المساهمة التي تعتبر حاليا إحدى تدفقات الاستثمارات الجديدة في الاقتصاد السعودي، وأسهمت في معالجة قضية الشركات العائلية، والتي تعثرت سابقاً عشرات الكيانات بالتفتت جراء الخلافات التي قد تنشأ، إما بسبب وفاة المؤسسين أو بسبب خلاف بين الجيل الثاني من أفرادها، وقالت إن وزارة التجارة والصناعة لن تسمح بانهيار تلك الكيانات، لأنها لا تتوقف آثارها بفقدان عمود في منزل قائم, بل الأمر يلحق أيضا بفقدان فرص وظيفية كانت قائمة يعيل أصحابها مئات من الأسر، لذلك تحركت وزارة التجارة والصناعة مبكرا ووضعت الضوابط العامة لتحول الشركات العائلية إلى مساهمة من خلال سلسلة من الاجتماعات لإثارة الاهتمام واتباع سياسة الترغيب والترهيب بين الحين والآخر.
ختاماً، لم يغادر الوزير هاشم يماني إلا بعد أن أصدر قرارا بإنشاء جمعية حماية المستهلك، ليقول لكل من عينهم إنني أترك حقوق المواطن أمانة في أعناقككم، وليكون هذا القرار الواحد بعد الألف من القرارات الشجاعة التي قدمها معالي الوزير بعد أن ترجل من الكرسي الذهبي طوعاً واختياراً!