رسالة الخطأ

Notice: unserialize(): Error at offset 8 of 9 bytes in variable_initialize() (line 1202 of /var/www/html/includes/bootstrap.inc).


الإعانات الحكومية بين السياسة والاقتصاد

[email protected]

تدهور قيمة الدولار عاد على الحكومة السعودية بعوائد مجزية. فهناك الأرباح الإضافية في أسعار البترول من فرق زيادة السعر (بسبب انخفاض الدولار). وهناك عوائد الضريبة غير المباشرة التي فُرضت على البلاد، والتي تسبب فيها ربط الريال بالدولار، حيث إن تخفيض قيمة العملة هو البديل الأسلم سياسيا لسد عجز الحكومات. فبدلا من الضرائب المباشرة أو تخفيض الأجور والإعانات، تخفض القيمة الشرائية لهما من غير الحاجة إلى الدخول في مواجع سياسية. ولا أريد أن يفهم من كلامي أني أدعو إلى رفع قيمة الريال أو فك الارتباط بالدولار، فربط الريال بالدولار والمحافظة على سعر صرفه الحالي سياسة حكيمة ناجحة أناصرها الآن، كما ناصرتها من قبل، شارحا أسباب المناصرة في مقالات عدة سابقا. بل الذي أريد الوصول إليه هو معالجة آثار انخفاض قيمة الدولار، وتبيين أن الدولة عندما رفعت الأجور أو الإعانات بنسبة 15 في المائة، هي لم ترفع الأجور حقيقة، بل خفضت نصف قيمة الضرائب غير المباشرة التي بلغت قيمتها 30 في المائة تقريبا بسبب الارتباط بالدولار.
تدخل الدولة المباشر في الاقتصاد يجب أن يكون محدودا وعند الضرورة. فالمجتمع الاقتصادي كجسم الإنسان وكالمكائن المعقدة، متشابكة متداخلة يعتمد بعضها على بعض. فالتدخل المباشر للحكومة في الاقتصاد يعطل اليد الخفية التي تحرك أساسيات السوق وفق قوانين العرض والطلب، ما ينتج عنه إما تبديد للموارد وإما الإضرار بقطاعات اقتصادية أخرى، فيجب إذن أن يكون مُضيقا محدودا على قدر الحاجة. وأما التدخل غير المباشر للدولة فهو مطلوب محمود وهو كالدواء للجسم إذا أُحسن وصفه.
رعاة البقر الأمريكيون اقتضت مصلحتهم تخفيض القيمة الشرائية للدولار، كما اقتضت مصلحتنا ربط الريال بالدولار والحفاظ على معدل الصرف المعلن. رعاة البقر الأمريكيون عالجوا الضرر الحاصل بسبب انخفاض الدولار. فهم قد خفضوا الضرائب على قومهم فكأنهم بذلك قد زادوا مدخولاتهم المالية من جهة ودفعوا أصحاب العمل فرفعوا أجور موظفيهم من جهة أخرى، كما سهل رعاة البقر التمويلات بتخفيض أسعار الفوائد، فكأنهم بذلك قد قدموا إعانات غير مباشرة لقومهم، إضافة إلى الإعانات المباشرة للمتضررين كأصحاب المنازل. فهم، أي رعاة البقر، عوضوا قومهم عن تناقص قيمة دولارهم. فما بالنا نحن نأخذ بطرف المعادلة من جهة ونتخلى عنها من الجهة أخرى؟
الإعانات الحكومية قد تكون ذات غرض سياسي أو اقتصادي. فأما الإعانات ذات الغرض السياسي كإعانات الشعير فلتترك للسياسيين. وأما الإعانات ذات الغرض الاقتصادي فتنقسم إلى إعانات مباشرة على الحاجات الاستهلاكية الضرورية كقوت غالب الناس، وإلى إعانات خاصة بالنوازل، وإلى إعانات غير مباشرة مهمتها تحفيز الاقتصاد أو تخفيض معدل الأسعار العام كالإعانات على الوقود.
الإعانات إن لم تداخلها دوافع سياسية يجب ألا تؤدي إلى تحفيز الاستهلاك الإسرافي. فإعانات حليب الأطفال والأدوية مثلا لا تؤدي إلى الاستهلاك الإسرافي. وأما الإعانات على الأرز والقمح والكهرباء والماء فكلها أمثلة على سلع إعانتها تؤدي إلى تحفيز الإسراف في استخدامها من غير حاجة حقيقية لها، أي تحفز الاستهلاك الإسرافي. فالإعانات على الأرز مثلا تؤدي إلى الإسراف في استخدامه. وهذا واقع ملموس وظاهر عندنا هنا في بلادنا. فهل ندعو إلى وقف الإعانات على الأرز؟ في ظل الضبابية عندنا وعدم ثقة الناس وعدم معرفتهم بمصير الأموال العامة، فإن تصرفا كهذا بلا شك سيثير حفيظة الشارع ويتسبب في أضرار سياسية تكلفتها أعلى بكثير من المصالح الناتجة عن تخفيض الإعانة كحفظ النعم والأموال من أن تنتهي في قمائم الزبالات. وقصدا لتقريب تأصيل المفهوم الاقتصادي للاستغلال الأمثل للإعانات الحكومية فلنفترض عدم وجود هذا المحظور السياسي المتمثل في إثارة حفيظة الشارع. فإلغاء المعونات على الأرز وحده دون البديل له كالقمح (الخبز) سيدفع الناس إلى الانتقال لاستخدام الخبز والجريش كوسيلة لحشو الصحون لإملاء العيون بدلا من الأرز. فيجب أن ينظر إذن إلى السلع البديلة عند زيادة الإعانات أو إلغائها. وأما الأمر الثاني الذي يجب أن يؤخذ في الاعتبار هو الطبقة الكادحة. فالعمال والطبقة الفقيرة هي التي تتأثر حقيقية من غلاء الأرز وما عداهم فلا يشكل زيادة سعر الأرز إرهاقا على ميزانياتهم إذا التزموا بأكل ما يشترونه من الأرز. فيجب إذن أن ينظر عند إلغاء إعانة ما إلى المتضررين حقا من ذلك فيعوضون عنه. وأما الأمر الثالث الذي يجب أن ينظر إليه فهو الشفافية. فيجب توضيح الفوائد الاجتماعية والاقتصادية من إلغاء الإعانة على سلعة استهلاكية ضرورية، إعانتها تؤدي إلى الإسراف فيها. ويجب أن يصاحب ذلك توضيح وتبيين إلى أين ستوجه الأموال التي كانت مخصصة للإعانات. فمجتمع كمجتمعنا، التكتيم والسرية أصل متأصل في جذوره ومفخرة يفتخر بها أفراده، يكثر صياح ونياح الغني والفقير على حد سواء عند إلغاء أي معونة من المعونات، وذلك لعدم معرفة الناس إلى أين ستذهب أموال الإعانات.
وإما الإعانات غير المباشرة، التي مهمتها تحفيز الاقتصاد أو تخفيض معدل الأسعار العام، فهي كالإعانات على الحديد والوقود. فتخفيض أسعار الوقود لا ينتج عنه الإسراف في الاستهلاك وخاصة وقود الشاحنات والمعدات. فلا يتخيل عاقل أن يجوب سائق شاحنة طرق المملكة لانخفاض سعر الديزل. ولا يتخيل أن تترك مكائن مصنع لتعمل من غير إنتاج من أجل رخص سعر الوقود. فالإعانات على الوقود إذن تؤدي إلى خفض التكلفة على التاجر والمصنع، ما سيؤدي إلى خفض الأسعار في سوق تنافسية، ما سيؤدي إلى انتقال هذه الإعانة إلى عامة الناس، أي زيادة غير مباشرة في مداخليهم.
ومن الإعانات غير المباشرة إلغاء الضرائب. فالضرائب في أصلها غير محمودة دينا أو اقتصادا. وتغلب مصلحتها ضررها إذا كانت لأمور تنظيمية كالحد من استخدام سلعة مضرة كالسجائر أو سلع الترف الزائد، أو كالحد من الاحتكار كاحتكار الأراضي أو الحد من سلع رخيصة مستوردة تنافس سلعا ينتجها الاقتصاد المحلي وبالجودة نفسها. وهي عند حاجة الدولة تؤخذ من الغني دون الفقير. وأما عند عدم الحاجة إليها كغنى الدولة عنها (كالوضع عندنا هنا) فهي تقليد غربي أُخذ بطرف منه ونُبذ طرفه الآخر. فالغرب يأخذها لحاجة الدولة إليها ويأخذها من الغني دون الفقير وذلك هو المفهوم الإسلامي للضرائب. وأما في بلادنا، فالدولة ليست بحاجة إليها وتؤخذ من الفقير بنسبة أعلى بكثير من الغني إذا نظرنا إليها نظرة تحليلية فاحصة. فعندما تضرب ضريبة قيمتها مثلا 5 في المائة على سلع المشتريات المستوردة، التي تمثل حاجيات عامة الناس فكأننا أخذنا من الفقير 5 في المائة من دخله، وذلك لأنه ينفق جميع دخله على حاجياته، بينما أخذنا نسبة ضئيلة من دخل الغني الذي لا ينفق إلا جزءا ضئيلا منه على شراء حاجياته. فنخلص من ذلك إلى أن إلغاء الضرائب في بلادنا إن لم تكن لحاجة تنظيمية هو صورة من صور الإعانات لزيادة الدخول وتحفيز الاقتصاد.
وأما القسم الثالث من الإعانات فهو إعانات النوازل، وهي إعانات وقتية تزول بزوال النازلة، ونحن اليوم نعيش نازلة يجب أن ينظر إليها بجدية بعيدا عن تقليدية التفكير وعن المجاملات التي قصمت الظهور وأعمت البصائر. فالتضخم العالمي قد غلبت منفعته ضرره بالنسبة للدولة، وذلك بانتفاعها من ارتفاع أسعار البترول وانخفاض قيمة الريال، بينما تضررت منه فئة كبيرة من الناس. وهذه من النوازل التي تترك الحكيم حيران. فكل شيء معتبر في النظام الاقتصادي العام. فالتدخل إيجابيا في جزئية منه يؤثر سلبيا في جزئيات كثيرة منه. وسد خرق واحد منه يفجر خروقا متعددة فيه. فلا يوجد علاج بلا ضرر، وإنما يُتخير من العلاجات أقلها ضررا. فمن إعانات النوازل محو جميع الضرائب غير التنظيمية في هذه النازلة، أي التضخم في وقتنا الحاضر وانخفاض سعر الريال نتيجة ارتباطه بالدولار. ومنها إعانة جميع المواد التي هي من حاجيات الناس التي لا تؤدي إعانتها إلى الإسراف فيها. ومنها زيادة التسهيلات لما تقوم به الحكومة الآن مشكورة محمودة من تحمل تكاليف تعليم أبناء الناس ومضاعفة الإنفاق على الاستثمار في العقول السعودية، والتي سيجد الوطن آثارها الحميدة في القريب العاجل، إن شاء الله تعالى. ومن الإعانة على هذه النازلة تسهيل التمويلات الاستثمارية الإنتاجية للمواطنين لبناء منازلهم وتحمل جزء من قيمة الفوائد وبتحديد سعر فائدة منخفض للتمويلات السكنية لا يضر بالبنوك مع تحقيق عوائد عادلة لهما، فلا يظلم جزء من المجتمع ويُحمل ما يجب أن تتحمله الدولة من أجل جزء آخر، ومن ذلك تحديد أسعار غير عادلة للتجار لا تتفق مع التكلفة أو لا تتفق مع الأسعار العامة. فالله قد خلق ديناميكية السوق ورسوله قد بينها بفعله وبقوله "إن الله هو المسعر".
هناك خلط بين التجارة والثراء. فليس كل تاجر ثري ولا كل ثري تاجر. الأثرياء هم الذين يتحملون غالب تكلفة النوازل وعلى رأسهم الدولة إن كانت ثرية لا التجار. هذا هو الدين الذي ارتضاه الله لنا وأدركته الأمم المتقدمة فسادت وقادت. ديناميكية التجارة وما تحويه هذه الكلمة من معان وتعقيدات وتشابكات يجب أن تكون بمنأى عن تلاعب السياسات الدينية والحكومية على حد سواء. والعدل العدل من الأمير ومن إمام الدين ومن الناس مع الغني والتاجر والفقير، قال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا".
ما أنزل الله من داء إلا وله دواء عرفه من عرفه وجهله من جهله.

أستاذ الاقتصاد المالي في جامعة الأمير سلطان

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي