سوقنا المالية.. عندما يكون الوضع الطبيعي غير مقبول!

[email protected]

مؤشرات الأسواق العالمية مثل: داو جونز ونازدك وفوتسي وغيرها جميعها الآن عند أو قرب مستوياتها في عام 2000 ومع ذلك لا أحد يعد ذلك وضعاً غير طبيعي أو مؤشرا على أن تلك الأسواق في حاجة إلى تدخل ما لإصلاح أوضاعها. أما في المملكة ودول الخليج الأخرى, فالمتعاملون في أسواقها المالية على قناعة تامة أن الوضع الطبيعي وصف هذه الأسواق بعدم الاستقرار وأن تحقق ارتفاعات كبيرة مبالغا فيها خلال فترة قصيرة، بالتالي فالكل في انتظار تكرار هذه الأسواق لأدائها بين عامي 2003 و2005، متناسين ما ترتب على كل ذلك من انهيارات حادة.
قصر ومحدودية خبرة معظم المتعاملين في هذه الأسواق له دور كبير في الوصول إلى هذه القناعة العجيبة، فمعظم المتعاملين في السوق السعودية، على سبيل المثال، لم يعرفوا هذه السوق قبل عام 2005، وحظيت هذه السوق بانتباههم فقط عندما ارتفعت بنسب بلغت 85 في المائة عام 2004 و104 في المائة عام 2005. بالتالي فهم على قناعة تامة أن هذه السوق يجب أن تعاود الأداء نفسه، وهم في انتظار ذلك ليستعيدوا خسائرهم القاسية. غير مدركين أن مؤشر السوق، ورغم تراجعه الحاد مقارنة بمستوياته المرتفعة التي سجلها أوائل عام 2006، تفوق قيمته حالياً قيمته نهاية عام 2002 بنسبة تزيد على 200 في المائة. ونفاد صبر هؤلاء المتعاملين وهم ينتظرون ارتفاع السوق من جديد، جعلهم يطالبون بوقف الاكتتابات الأولية, وإلى تدخل الصناديق الحكومية وشبه الحكومية, بل حتى إنشاء صناديق جديدة للاستثمار في الأسهم المحلية أملاً في دفع السوق للارتفاع المبالغ فيه من جديد، عندها وعندها فقط ستكون هذه السوق في نظرهم قد تعافت.
بينما الواقع أن الوضع الحالي للسوق السعودية هو الوضع الطبيعي الذي يجب المحافظة عليه، فالسوق المالية لم توجد لتكون مكاناً للمقامرين الذين لا تعني لهم السوق المالية أكثر من كونها مكاناً يحلم فيه الفرد بتنمية مدخراته بسرعة وبنسب عالية جداً دون جهد يذكر، وليست على الإطلاق مكاناً للمضاربات والتذبذبات الحادة التي يكسب من خلالها عدد قليل على حساب السواد الأعظم من المتعاملين الذين تتبخر مدخراته, أمام ناظريهم دون حول منهم ولا قوة, وهم بانتظار معاودة السوق ارتفاعها من جديد، وهدفها الحقيقي المواءمة بين حاجة المستثمرين إلى التمويل والمدخرين إلى فرص لتوظيف فوائضهم المالية. وكلما كانت السوق المالية مستقرة وتميل إلى الارتفاع المعتدل المرتبط بحقيقة الأداء المالي للشركات المدرجة وبعيداً عن الضغوط المضاربية التي ترفع الأسعار بصورة مبالغ فيها كانت أقدر على اكتساب ثقة المستثمرين الراغبين في تنمية مدخراتهم بحد أدنى من المخاطر وبعوائد مجزية مقارنة بخيارات أخرى متاحة.
والسوق المالية السعودية في وضعها الحالي عند مستويات مرضية للمستثمرين كون مكررات ربحية عدد لا بأس به من الشركات مناسبة، إلا أن سيطرة ثقافة المضاربة ليس فقط بين شريحة المتعاملين الأفراد, وإنما حتى بين من يديرون صناديق الاستثمار جعل وضع السوق الحالية غير مقبول. لذا نجد الجميع يتباشر بما سيترتب على قرار هيئة السوق المالية الأخير بالسماح للأجانب غير المقيمين بالاستثمار في السوق السعودية من خلال مؤسسات الوساطة باعتبار أن ذلك يمثل سيولة إضافية ستدفع السوق للارتفاع, وبالتالي تحقق حلمهم الذي طال انتظاره. غير مدركين أن هذه السوق ليست بحاجة إلى تدفقات مالية أجنبية قد لا يتعدى حجمها في أحسن حالاتها مئات الملايين من الريالات في وقت تنمو فيه السيولة المحلية بمئات المليارات سنويا. فمنذ انهيار السوق في شباط (فبراير) 2006 ارتفعت السيولة المحلية بما يزيد على 280 مليار ريال واستثمارات السعوديين في الخارج قد تكون زادت بمثل هذا المبلغ أو أكثر. ولولا الاكتتابات الأولية التي أفشلت كل محاولة من قبل المتلاعبين في السوق لتكرار كارثة شباط (فبراير) لربما رأينا تلك المأساة تتكرر خلال الفترة الماضية مرات عديدة.
إن عدم قدرتنا على الحد من نمو السيولة المحلية بمعدلات تفوق كثيراً حاجة اقتصادنا، تجعل أفضل ما يمكن أن تقوم به الهيئة هو وأد كل محاولة لرفع السوق بصورة مبالغ فيها من خلال طرح المزيد من الاكتتابات الأولية. فأي ارتفاع في هذه السوق لن يكون على الإطلاق مدفوعا بأداء الشركات، وإنما فقط بارتفاع حجم الطلب الناجم عن فائض السيولة، وهو الوضع نفسه الذي تسبب في كارثة فبراير وله القدرة على تكرار المأساة نفسها من جديد. ما يعمق معانة شريحة واسعة في المجتمع تعتقد أن الكارثة كانت في انهيار السوق، في حين أن الكارثة الحقيقية كانت في السماح للسوق بالارتفاع غير المبرر، وهو الخطأ الجسيم الذي يجب ألا يتكرر مطلقا.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي