نظام التعليم الفني.. إلى أين؟!
لماذا تمكن نظام التعليم الفني في دول شرق آسيا من تحويل المجتمع إلى مجتمع صناعي والمواطنين إلى عمالة ماهرة في مختلف التخصصات الفنية؟ لقد تم ذلك في وقت قياسي حتى بات العامل الفني من تلك البلدان عنوانا للمستوى العالي من الحرفية، في حين أن لنا تجربة ليست بقصيرة منذ بدأت المؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني أعمالها في عام 1400 هجرية وأصبحت هي المسؤولة عن كل معاهد التدريب المهنية والصناعية والكليات التقنية ومشرفة أيضا على مراكز التدريب في القطاع الخاص، لكن لم يصبح مجتمعنا مجتمعا صناعيا ولا العمالة الوطنية صارت مطلبا للشركات والمصانع، فكما هو ملاحظ مازال القطاع الخاص يبحث عن العمالة من شرق آسيا باعتبارهم أصحاب العلامة التجارية الرائجة هذه الأيام، فني متخصص من شرق آسيا، لقد حول نظام التعليم الفني في تلك البلاد العمالة إلى علامة تجارية تتسابق عليها الشركات والمصانع من كل أنحاء العالم، فكثير ممن يأتي للعمل في دول الخليج يحضر كمحطة ترانزيت لكسب الخبرة ثم بعد ذلك يتحول للعمل في دول أوروبا أو أمريكا الشمالية في أول فرصة عمل يحصل عليها بتلك الدول. إذا لماذا نجح غيرنا ؟! وظللنا نحن نتغنى بتعداد المراكز والكليات التي بنيناها وإحصاء المتدربين الذين تخرجوا في تلك المرافق التدريبية، هل نحن مفتونون بالكم أكثر من الكيف؟ للتدليل على نجاح تجاربنا دون النظر إلى أي مدى لبت مخرجات هذا النوع من التدريب حاجة سوق العمل، في حين الحقيقة الملموسة عمليا أن مخرجات التعليم والتدريب التقني والمهني لم تتمكن حتى الآن من تلبية احتياجات سوق العمل والدليل على ذلك إن نسبة العمالة غير الوطنية في القطاع الخاص تعادل 78 في المائة تقريبا حسب إحصائية التأمينات الاجتماعية عام 1427هـ.
لقد قدر لي عام 1998م أثناء فترة عملي في إحدى شركات أرامكو السعودية أن أزور معظم مراكز التدريب التابعة لها وشاهدت خلال هذه الزيارة تجربة ناجحة ومتميزة لبرامج التدريب الفني التي صممت لكي تلبي حاجة العمل لدى مختلف المرافق في أرامكو السعودية. قبل أن يبدأ المتدرب في أي برنامج تدريبي لا بد له أن يجتاز مستوى اللغة الإنجليزية والرياضيات المطلوبين للبرنامج، كما إن قاعات مراكز التدريب ملئت بمعدات وأجهزة simulatorمشابهة بل ربما مطابقة لما هو موجود في المعامل والمصافي التابعة للشركة، للتدريب عليها عمليا فيقضي المتدرب ثلاثة سنوات من التدريب النظري والعملي لكي يصبح فنيا مؤهلا تقنيا في مختلف التخصصات متمكن من اللغة الإنجليزية التي دونها لن يستطيع مواصلة التطور باعتبارها لغة العمل واللغة التي بواسطتها يستطيع التعامل مع الأجهزة وفهم دليل تشغيلها بلا أي مصاعب. أذكر إنني في إحدى زياراتي المجدولة للإطلاع على مرافق التدريب في رأس تنورة قابلت أحد المسؤولين في قسم تصميم البرامج التدريبية وكان من الجنسية الأمريكية وذكر لي وقتها أنهم عاكفون على تصميم برنامج مشابه للبرنامج المعد أصلا لخريجي الثانوية يستوعب خريجي الكليات التقنية، حيث يختصر الفترة الزمنية للتدريب من ثلاث سنوات إلى سنة ونصف يتم تعليم المتدربين خلال هذه الفترة اللغة الإنجليزية والتدريب النظري والعملي المكثف لكي يؤهلهم للعمل في مرافق أرامكو السعودية وفعلا تم تصميم هذا البرنامج واستوعب خريجي الكليات التقنية.
السؤال الذي يطرح نفسه هو كم من الشركات في المملكة لديها الإمكانات المشابهة لما لدى أرامكو السعودية حتى تعيد تدريب خريجي مراكز التدريب المهني والكليات التقنية؟ وهل يفترض أصلا حاجة خريج المعاهد والكليات التقنية لبرنامج إضافي يتم فيه زيادة جرعة التدريب لتتناسب مهاراته مع احتياجات سوق العمل؟ لماذا لا تصمم البرامج التدريبية بالتنسيق مع الشركات والمصانع حتى تكون المخرجات متناسبة مع سوق العمل، نحن نعلم أن هذا الأمر ليس باليسير ويحتاج إلى عمل مكثف ومضن من الطاقم المسؤول عن تصميم البرامج في المؤسسة وربما هي تعمل على ذلك، لكن في كل الأحوال ما زالت البرامج المقدمة من المؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني تحتاج إلى مزيد من التطوير إلى أن يصبح الطلب على مخرجاتها من سوق العمل يشعر به القاصي والداني، ولا نجد من يتخرج من مراكز التدريب في المؤسسة يمضي وقتا طويلا بعد تخرجه بالسنة والسنتين يبحث عن وظيفة، في حين أن شركات ومصانع القطاع الخاص تستقدم سنويا عشرات الآلاف من العمالة الأجنبية لسد احتياجاتها في التخصصات التقنية والمهنية أو نجد شركة بحجم شركة إنتل العالمية يصرح نائب رئيس مجلس إدارتها جودرن جريليش في خبر نشرته جريدة "الحياة" بتاريخ 19/4/2008 يقول فيه إن عدم توافر الخبرات الكافية وراء عدم إنشاء الشركة مصنعاً لها في المملكة.
إن ما حصل في شرق آسيا ليس بمستحيل ولدينا الإمكانات والخبرات التي تضمن نجاح مثل هذا المشروع وكل ما نحتاج إليه هو تكاتف الجهود والاستفادة من التجارب الناجحة لدينا وما من شك إن تجربة أرامكو السعودية الناجحة في التدريب الفني تجربة رائدة ونحن في حاجة ماسة إلى تعميمها ليستفيد منها كل المواطنين في المملكة ولن يستطيع القيام بهذه المهمة سوى كيان بحجم وإمكانات المؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني، أنا لا أعلم إذا كان المسؤولون في المؤسسة قد جربوا الاستفادة من تجربة مراكز التدريب التابعة لأرامكو السعودية التي تمتد تجربتها وخبرتها في هذا المجال بقدر عمر الشركة ليرتقوا بمخرجات التدريب حيث تكون بمستوى ما تقدمه هذه المراكز، ولكن إن لم تفعل فمن المؤكد أنها ستخسر فرصا لتطوير برامجها بما يحقق النفع الكبير للملتحقين فيها من المتدربين، فهذه جامعة الملك فهد للبترول والمعادن لم يمنعها وهي الجامعة التي يعد خريجوها الأكثر طلبا في سوق العمل من أن يزور وفد منها يتكون من مجموعة لا تقل عن سبعة من أساتذتها حضروا فقط ليطلعوا على برنامج التأهيل للبعثات في أرامكو السعودية College Preparatory Program (CPP) وهو برنامج خاص لتحضير الطلبة للدراسة الجامعية مشابه للسنة التحضيرية في جامعة البترول فقد كانت فرصة لتبادل الخبرات والاستفادة من تجربة أرامكو السعودية.