هامشية مكاسب الطفرة الحالية
يتكرر الحديث عن ضرورة تفادي تكرار سلبيات الطفرة الأولى، التي كان من بينها تضخم أسعار الأراضي البيضاء، والمبالغة الشديدة في تكلفة المشاريع الحكومية، وغيرها من الظواهر غير الإيجابية التي صاحبت تلك الطفرة. إلا أن تلك الطفرة بسلبياتها حققت في الواقع مكاسب اقتصادية عديدة لا تزال غائبة إلى حد كبير في الطفرة الحالية، من أهمها إتمام بناء معظم التجهيزات الأساسية، وأن مختلف الأنشطة الاقتصادية شهدت نقلة نوعية هائلة، وزاد حجم التوظيف وتحسنت فرص العمل بشكل كبير.
في هذه الطفرة في المقابل، مظهر الانتعاش الاقتصادي الوحيد تقريبا هو الارتفاع غير العقلاني في أسعار الأسهم المحلية، ما وجه معظم المدخرات الشخصية إليها، وحد كثيرا من معدلات نمو مختلف قطاعات اقتصادنا الوطني في ظل عدم وجود استثمار حكومي مباشر يعوض عن ذلك، فعوائد أي نشاط حقيقي لا يمكن حتى أن يقرب من مكاسب مضاربات سوق الأسهم، ما جعل المستثمرين يجدون أن فرصة تنمية مدخراتهم في تلك السوق تفوق أولوية تنفيذ مشاريعهم، بل حتى الشركات المساهمة وجدت أن الأجدى استثمار مواردها في سوق الأسهم بدلا من تطوير نشاطها الأساسي. كما جعل استقطاب الاستثمارات الأجنبية مهمة مستحيلة، ففشلنا في إيجاد أوعية استثمارية لمدخراتنا الوطنية يجعل من غير المنطقي توقع حدوث تدفق حقيقي للاستثمارات الأجنبية، فتدفق مدخراتنا لأي مكان آخر في العالم يعني أن ذلك المكان يحتوي فرصا استثمارية أفضل من تلك التي تتوافر لدينا ومن السذاجة تصور غير ذلك.
الواضح أن الأجهزة الحكومية لم تكن مستعدة لحدوث طفرة جديدة، لذا لم تمتلك أي خطط لتنفيذ مشاريع استراتيجية عملاقة مستغلة الوفرة المالية المتاحة، وكان المفترض أن تكون الأجهزة الحكومية قد وضعت خلال السنوات التي شهدت تراجعا في مواردنا المالية خططا لبرامج طموحة رائدة بمتطلبات تمويلية ضخمة يجري تنفيذها عندما تحين الفرصة المناسبة، لا أن تكتفي بتسيير العمل التنفيذي وتهمل الجوانب التخطيطية، بل حتى تبقى دون حراك، رغم مضي ما يزيد على عامين على بدء الطفرة الحالية.
الدكتور غازي القصيبي ذكر في كتابه ''حياة في الإدارة'' أنه عند توليه وزارة الصناعة والكهرباء مع بداية الطفرة الأولى وجد دراسات ضخمة لمشاريع صناعات بتروكيماوية طموحة جدا كانت ''بترومين'' قد أنجزتها، ما سمح للوزارة المنشأة حديثا الانطلاق مباشرة لوضع تلك المشاريع الضخمة موضع التنفيذ مستغلة الوفرة المالية المتاحة فجأة. والأمر المؤكد أنه لولا الجهود التي بُذلت في إنجاز تلك الدراسات في الوقت المناسب تماما، لربما انتهت الطفرة الأولى قبل أن تستكمل مثل تلك الدراسات، ناهيك عن إقامة المشاريع نفسها، ولم نر مدينتي الجبيل وينبع الصناعيتين ومشاريعهما الضخمة التي تمثل أحد أهم إنجازات الطفرة الأولى. وعدم جاهزية الأجهزة الحكومية بأفكار مماثلة في هذه الطفرة حد كثيرا من مكاسبها الاقتصادية، وتسبب في نمو سريع في السيولة المحلية دون فرص استثمارية مناسبة، ما أدى إلى تدفقها بشكل طبيعي للسوق المالية نتج عنه تضخيم غير مقبول في قيم الأصول المالية المحلية.
أي أن تقصير الأجهزة الحكومية المعنية في القيام بمهامها التخطيطية أسهم في حرمان اقتصادنا الوطني من فرصة نهضة شاملة، تخلق قنوات مناسبة لاستثمار مدخراتنا المحلية، وتجنب اقتصادنا سلبيات تضخم السوق المالية، وفاقم من حجم المشكلة عدم قيام السلطات المالية والنقدية باتخاذ خطوات لمعالجة هذا القصور من خلال اتخاذ إجراءات تمتص فائض السيولة كالمبادرة إلى طرح الأسهم المملوكة للدولة في الشركات القائمة في اكتتابات عامة. وموقف هذه السلطات يصبح أكثر غرابة إذا عرفنا أنها أقدمت على اتخاذ إجراءات معاكسة ترفع من نسبة ملكية الدولة في الشركات القائمة بدلا من تخفيضها، مثل قيام صندوق الاستثمارات العامة بشراء أسهم الشريك الأجنبي في مجموعة سامبا بدلا من طرحها في اكتتاب عام.
ترتب على ذلك قيام وضع اقتصادي غريب في بلادنا يتمثل في أن تكون مصلحة اقتصادنا الوطني هي في خروج فائض السيولة إلى خارج البلاد بدلا من بقائها محليا، لا كما يعتقد البعض أن المصلحة في بقائها، فبخروج فائض السيولة تخف الضغوط التضخمية على قيم الأصول المالية وتزداد جاذبية نشاطات الاقتصاد الحقيقي، وتتحول تلك السيولة الفائضة المستثمرة خارجيا إلى احتياطي مالي استراتيجي يمكن أن يعود لاحقا متى ما توافرت فرص مناسبة لاستثماره محليا، ولو لم تتوافر خارجيا فرص توظيف مناسبة لفائض سيولتنا التي فشلنا في استثمارها لكان مؤشر سوق الأسهم قد تعدى الآن حاجز الـ 20 ألفا وبلغ مكرر ربحية معظم الشركات المتداولة المئات.