إستراتيجية التوظيف السعودية.. تبحث عن مشروعية (2 من 2)
تقول قاعدة "نصف الكأس"، إنه بإمكانك النظر والقراءة بـ "سلبية" أو "إيجابية"، وهذا ما حدث حينما طرحت في الجزء الأول إستراتيجية التوظيف السعودية التي أعدت وزارة العمل دراسة اختصاصية بشأنها تمهيداً لتطبيقها، فالتعليقات التي وردت لي رداً على مقالي، ألمحت بصورة مباشرة وغير مباشرة، أني أقف في موقف "الضد" منها.
ومن المنطقي الإشارة إلى أن الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية، فحينما طالبت أن يكون النقاش حول إستراتيجية التوظيف "علناً"، بهدف الاستفادة من جميع الأطروحات والأفكار النظرية والعملية.
وكنت قد طرحت في الجزء الأول عنواناً عريضاً، أتساءل فيه أهمية أن تتضمن الإستراتيجية معضلة الأجيال المقبلة، فالإستراتيجية كما قرأتها وقرأها غيري أيضاً، لا تعالج هذا الجانب، ولم أكن أحاول إلقاء المسؤولية على وزارة العمل، بل طالبت بأهمية البناء من القاعدة وضرورة إشراك وزارة التربية والتعليم، وزارة التعليم العالي، والمؤسسة العامة للتعليم والتدريب المهني والفني.
ولعله من حسن المصادفة أن يتزامن طرحي مع مقالات وآراء كتاب واختصاصيين تصب في القضية نفسها تقريباً، فهناك مقالان رائعان للباحث الدكتور عدنان الشيحة، وآخر من رئيس تحرير صحيفة "الاقتصادية" الأستاذ عبد الوهاب الفايز!
في المقال الأول للدكتور عدنان الشيحة يؤكد أن بعض القرارات والاستراتيجيات تكون مجحفة غير واقعية توجد أوضاعا تكون خسراناً ووبالاً على الجميع، اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا يصفق لها معدوها.. فقط! وقد يكونون هم أول من يكتوي بسلبياتها، همهم تحقيق مكاسب آنية سريعة دون النظر إلى صورة أكبر وأشمل وذات أمد أطول، وإحداث تغيرات أصيلة غير شكلية تدوم وتؤتي أُكلها ولو بعد حين.
ويرى الدكتور الشيحة، أن إستراتيجية التوظيف قد يصفق لها البعض لكن ذلك لا يتعدى أن يكون فقاعة هواء ما تلبث أن تتلاشى ولا يبقى منها شيء، ويقول: (إن المقترح الأول للإستراتيجية لم يرتق إلى مستوى التوقعات ولا إلى الحد الأدنى من أساسيات الدراسات الميدانية والمعايير المهنية الاستشارية لا مضمونا ولا تقديما، ويحتاج إلى إعادة صياغة وتعديلات جوهرية).
وفي المقال الثاني يطلب الدكتور الشيحة من وزارة العمل تعديل طريقة مناقشة مقترح الإستراتيجية، ويقول: (إنه حقا شيء غريب وتناقض عجيب أن يكون القضاء على البطالة على حساب إنتاجية الاقتصاد، بينما كان من المفترض السعي حثيثا إلى تبني إستراتيجية تشجع النمو الاقتصادي لاستيعاب الباحثين عن العمل).
ويعتقد الدكتور الشيحة أن ظاهرة البطالة مستمرة وستبقى ما بقي الاقتصاد بين انتعاش وانكماش، ويقول: (أخشى أن يؤدي تجاهل أولوية الإنتاجية والنمو الاقتصادي إلى أن تطال البطالة رجال الأعمال وتتفشى بينهم بإفلاس بعضهم أو إصابة البعض الآخر بالإحباط والعزوف عن مواصلة الأعمال التجارية والصناعية والدخول في عالم البطالة المقنعة بالاستثمار في سوق الأسهم الذي لا يرتبط بإنتاجية الشركات ولا بأدائها المالي، ما ينعكس سلباً على تطور الاقتصاد ونموه، فحينها تكون البطالة الحقيقية والطامة الكبرى شللا تاما للاقتصاد الوطني).
ولم يذهب الأستاذ عبد الوهاب الفايز في مقالته المعنونة (قضية السعودة هل تقسم مجتمعنا)، بعيداً عن رأي الشيحة، وقال: (أخشى أن ينشق المجتمع إلى فريقين يبتعدان في الأفكار والتصورات والسلوك، حيث يبدو انقسامنا جليا حول موضوع إصلاح الخلل في سوق العمل، فالناس تتجاذب مواقف متضاربة ومتنافرة تؤدي إلى الاستقطاب وربما إلى التصادم, فهناك من يؤيد بقوة التشدد في سياسات الإحلال، وهناك من يرفض بشدة معظم الإجراءات المطبقة الآن، ويبدو أن منطقة الالتقاء تتسع بين الطرفين، ولا ندري إلى أين سيأخذنا هذا الانقسام)!
وقال أيضاً: (يبدو أننا إزاء قضيتين عادلتين: "السعودة" و"حيوية القطاع الخاص" إنهما قضيتان لا تنتهي المبررات الوجيهة التي تدعمهما.. وقد تحاورنا سنين عديدة حول هذا الموضوع، وليس أمامنا الآن سوى (الجدل) الذي قد يشق صفنا، ويبقى السؤال: ما الحل؟
وأقترح الأستاذ عبد الوهاب الفايز حلاً لفض الاشتباك، وقال: (لكل شيء ثمن تعني ببساطة أن نتجه لبحث إمكانية وضع رسوم متفاوتة للتأشيرات حسب أهمية المهن المطلوبة، ولأجل توضيح المقصود فقط, نقول: لماذا لا توضع رسوم تؤخذ للمرة الأولى وقد تصل إلى 20 ألف ريال أو أكثر أو أقل من هذا الرقم، ثم تتدرج الرسوم على التأشيرات حسب المهن وأهميتها, وربما تتضمن هذه الآلية مهنا ضرورية ونادرة تستقدم دون مقابل، وهكذا نوجد آلية موضوعية يمكن استخدامها لضبط العرض والطلب في سوق العمل, كما أن المبالغ التي ستتحصل من هذه الرسوم توجه إلى صندوق للابتعاث والتدريب).
ويمضي في مقالته قائلاً: (يبدو هذا الحل مربحا، فبقدر ما يطلب القطاع الخاص من التأشيرات نستفيد نحن من وجود مورد ثابت للابتعاث والتدريب داخليا وخارجيا، وبعد سنوات سنجد أننا أمام وفرة من الموارد البشرية الوطنية المؤهلة في أرقى المؤسسات العلمية العالمية, وفي مثل هذا الوضع قد تتحول وزارة العمل إلى مسوق للتأشيرات يسعى إلى القطاع الخاص ليبيع عليه أكبر قدر ممكن من التأشيرات والآن وبعد مرور أكثر من عشر سنوات على الانغماس الكلي في قضايا العمل لم يبق إلا أن نجرب حلا واقعيا لعله يكون طوق النجاة الذي ينجينا من هذا البحر اللجي، لنخرج إلى سطح الماء حتى نسمع بعضنا بوضوح ونفكر بهدوء، واقتصادنا بدون سياسة فعالة للضرائب والرسوم سيبقى ناقصا، بل (أعرج!)، فكيف يكون اقتصادا حرا ويأخذ بأدبيات وأدوات النظرية الرأسمالية دون ضرائب تجدد الموارد للدولة وتهذب وترشد الاستهلاك وتوجه الادخار والاستثمار وتنظم سوق العمل، ويبقى أن نقول إن الحلول الاقتصادية ليست عادلة دائما ولكنها حضارية وتخرج المجتمعات من الغرق في مشاكل بسيطة وتغلق باب التذمر الاجتماعي).
إن رأي الكاتبين القديرين يعززان مزيداً من الشفافية في القضية، فلماذا لا نعترف أننا لا نزال نحتاج إلى العمالة الوطنية المتخصصة ونحتاج إلى وجود أيد وطنية عالية التأهيل تستطيع أن تستوعب تلك التقنيات وتعمل على تطويرها بأفكار ذاتية بحيث يتم إيجاد الحلول للمشاكل المتعلقة بهذه التقنية من خلال جهود الاختصاصيين السعوديين في إيجاد الأرضية المناسبة لبدء توطين تلك التقنيات من خلال الإبداع والتصنيع والابتكار، ما يشكل رافداً حقيقياً من روافد البناء الاقتصادي المبرمج والمؤمن من احتكار التقنية من قبل مصنعيها.
أخيراً أعود إلى الردود التي تلقيتها، وأقول: إننا جميعا نؤيد التزام القطاع الخاص أن يضع في سياسته العامة الاستثمار ليس فقط بالموارد المادية المتاحة لها ولكن في الموارد البشرية الوطنية، التي تعتبر من أهم أهداف تطورها ونموها. والمأمول من القطاع الخاص هنا تخصيص جزء من ميزانياته السنوية التخطيطية بتطوير الكوادر الوطنية العاملة فيها، ونعلم أن بعضا من الشركات السعودية الكبرى قد أدركت أهمية التدريب والتطوير تبعا لما تمليه معايير الجودة العالمية "الآيزو"، ولكن يجب على باقي الشركات أن تصاب بعدوى الاهتمام لتطوير كفاءة الموارد البشرية الوطنية التي تعتبر من الموارد الإيجابية الجاذبة للاستثمار الخاص.
ولا جدال على أن القطاع الخاص يجب أن يعمل على تطوير وتدريب الكوادر الوطنية لأنها ستعود عليه بالفائدة كاستثمار طويل الأجل، ونحن نشيد هنا بإمكانيات شركتي "سابك" و"أرامكو" اللتين نجحتا في تطوير الكوادر السعودية العاملة لتكونا متميزتين بالمهارات والتقنيات العالية، وبأخلاقيات العمل وبالإنتاجية العالية. فبالإمكان أن تكون الكوادر السعودية ثروة بشرية جاذبة للاستثمار، فالعيب ليس في المواطن ـ إن صح التعبير ـ وإنما في القطاعين الحكومي والخاص اللذين لم يوفرا للكوادر الوطنية الفرصة للتدريب والتأهيل المطلوب.