الحجاج العراقيون ما بين صدام والجعفري
تهفو قلوب المؤمنين نحو أطهر البقاع وأشرفها على وجه الأرض، نحو مكة المكرمة التي شرفها الله بأن جعلها قبلة للمسلمين، وطهرها للطائفين والركع السجود. تتوجه لها الأنظار في موسم الحج وتخفق لها القلوب ويقصدها المسلمون وقد غشيتهم السكينة وحفتهم الملائكة. موسم من مواسم العبادات والرحمات يحرص المؤمنون فيه بالبعد عن الفسق والجدال مخافة ألا يتقبل الله منهم. وعلى الرغم من روحانية المكان وقدسيته وشرف الزمان وحرمته إلا أن البعض يحاول جاهدا أن يفسد روحانيته بالكذب والتجني من أجل المصالح الدنيوية.
يسعى البعض إلى إحراج السعوديين وإشغالهم في مواسم الحج لمعرفتهم بأهميته للمسلمين قاطبة وللسعوديين على وجه الخصوص، تصفية لحسابات داخلية أو تحقيقا لأهداف مشبوهة لم يثبت إن كانت السعودية طرفا فيها. أصبح الحج لدى ضعاف النفوس ورقة ضغط يستخدمونها لتحقيق مآربهم الدنيوية دون مخافة من الله عز وجل. سنوات طويلة والسعودية تتعامل بحذر وحزم مع المخططات المشبوهة التي تهدف إلى إفساد مواسم الحج أو إقحام السعودية في جدل إسلامي واسع.
لم يفلح الرئيس العراقي المخلوع صدام حسين في إحراج السعودية عندما كان رازحا تحت وطأة الضغوط الدولية ومحاصرة الجيوش الأمريكية له. أراد صدام حسين أن يلعب بورقة الحجاج في موسم الحج وأن يستغلها شر استغلال فأرسل طائرات الخطوط الجوية العراقية محملة بالحجاج العراقيين إلى السعودية ممنيا نفسه بإحدى الغنيمتين، إما أن تمنع السعودية هبوط الطائرات العراقية التي تواجه الحظر الدولي في حينه فتشن عليها ماكينة الدعاية العراقية المأجورة حملة شرسة تتهمها فيها بالتقاعس عن خدمة الحجيج وعدم السماح لهم بأداء مناسكهم، وإما أن تسمح لها بالهبوط فتدخل في أزمة دولية بسبب عدم تقيدها بقانون الحظر الدولي. السعودية كانت أكبر بكثير من أفكار صدام الشيطانية، فقد نجحت بدبلوماسيتها المتزنة أن تجمع بين المتناقضات، فيسرت دخول الحجاج العراقيين واستقبلتهم استقبالا يليق بضيوف بيت الله الحرام، وسمحت للطائرة العراقية بالعودة رافضة أن تطبق عليها قرارات الحظر الدولية. كما أنها في الوقت نفسه ردت بدبلوماسية على الأصوات الغربية التي انتقدت السعودية في سماحها للطائرة العراقية بالهبوط والإقلاع دون أن تطبق عليها القرارات الدولية الملزمة لجميع أعضاء هيئة الأمم المتحدة.
كرر الرئيس العراقي المخلوع استخدامه ورقة الحج مرة أخرى حينما حشد الحجاج العراقيين على المنافذ البرية الحدودية بين العراق والسعودية دون أن تكون لديهم التصاريح الرسمية الخاصة بالحج، إضافة إلى أن بعض المنافذ التي اختارها الرئيس المخلوع لعبور حجاج العراق لم تكن من المنافذ الرسمية المفتوحة إمعانا في تصعيد المشكلة. تجاوزت السعودية عن جميع تلك المخالفات الرسمية وسمحت للحجاج بالدخول وهيأت لهم الظروف المناسبة وتحملت تكاليف بقائهم في الأراضي السعودية حتى عودتهم سالمين إلى العراق. لم يكن الرئيس المخلوع حريصا على تأدية المواطنين العراقيين فريضة الحج بقدر حرصه على استغلالهم من أجل تحقيق مكاسب دبلوماسية وإعلامية مشبوهة. فشل الرئيس العراقي في خططه ونجحت السعودية في إثبات موقفها الثابت من خدمة حجاج بيت الله الحرام بتجرد لا يسمح فيه بالخلط بين القضايا السياسية والمواقف العدائية وبين الشعائر الدينية.
اليوم يحاول السيد إبراهيم الجعفري أن يعيد النهج الصدامي فيخلط الأوراق من جديد لمصلحته الخاصة لا لمصالح العراقيين أنفسهم. السيد الجعفري وجه اتهاما مباشرا للسعودية على أنها لم تسهل دخول العراقيين الراغبين في أداء فريضة الحج لهذا العام، ولم ينس أن يربط بين السماح للأعداد المتنامية من العراقيين الراغبين في أداء مناسك الحج وسقوط الرئيس المخلوع صدام حسين، في إيحاء ضمني يتقنه الجعفري جيدا كما يتقنه حزبه الذي ينتمي إليه.
الرغبة في أداء مناسك الحج لا تخضع لتنصيب رئيس أو إسقاط آخر، فكل المسلمين يعيشون على أمل أداء الركن الخامس من أركان الإسلام ولو سمح لهم جميعا في تأدية مناسك الحج دون تنظيم لما استوعبتهم منطقة مكة المكرمة بأسرها وليس الحرم. والسيد الجعفري يعلم بنسب الحج التي أقرتها منظمة المؤتمر الإسلامي ووافقت عليها جميع الدول العربية، ومع ذلك، فإن السعودية تتجاوز كثيرا في موضوع تحديد النسب خصوصا مع الحجاج العراقيين لظروفهم الخاصة ولكن للأسف الشديد فإن مثل ذلك التساهل استغل من قبل السيد الجعفري لتحقيق مكاسب خاصة، بعضها سياسي والبعض الآخر نفعي ومذهبي. السعودية سمحت، تجاوزا، بزيادة عدد الحجاج العراقيين لأكثر من 40 في المائة عن الحصة الرسمية للحجاج العراقيين التي أقرها مؤتمر وزراء خارجية دول منظمة المؤتمر الإسلامي، كما أنها قبلت بالتقديرات المغلوطة لعدد سكان العراق وزادت حصة العراقيين بمعدل الضعف عما كان عليه الوضع في عهد الرئيس صدام حسين تسامحا من أجل العراق والعراقيين ومراعاة لظروفهم، إلا أن جميع تلك المواقف المشرفة وغيرها من المواقف الأخرى لم ترق للسيد الجعفري، أو لعلها لم تكن تخدم مصالحه وتوجهاته، فأبى إلا أن يقلب الحقائق ويوجه انتقاداته للدولة التي لم ولن تتردد في تمكين الحجاج المسلمين من قضاء نسكهم. يحسب على السيد الجعفري معرفته التامة والدقيقة بالمخالفات العراقية الرسمية المتعلقة بشؤون الحج ونسب الحجيج، إضافة إلى كونه أكثر العارفين بجميع التسهيلات التي قدمتها السعودية له شخصيا وللحجاج العراقيين، ولا منة في ذلك، ولكن الله سبحانه وتعالى يقول " هل جزاء الإحسان إلا الإحسان ". السعودية لا تريد إحسانا من غير الله سبحانه وتعالى " لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا " وكل ما تحتاج إليه السعودية منهم هو الإنصاف وكف الأذى وعدم إقحام المملكة في منافساتهم ومنازعاتهم الداخلية.
نجحت السعودية خلال قرن من الزمان في النأي بموسم الحج عن أي حسابات سياسية أو مذهبية تؤثر في أمن الحجاج وسلامتهم، واستطاعت، بتوفيق من الله، أن تحقق النجاحات تلو النجاحات وأن تحفظ للمسلمين أمنهم وأداءهم لشعائرهم بكل يسر وسهولة، وأن توجه طاقاتها القصوى من أجل خدمة الإسلام والمسلمين. وستبقى بإذن الله تعالى قائمة على ذلك، ابتغاء مرضاة الله، وأن أنكر الجاحدون فضلهم. قال تعالى "وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ " صدق الله العظيم..