حوار الأديان والمقاطعة الاقتصادية

عندما نقرأ قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ} نحن كمسلمين نشعر بالقِيَم العالية للرسالة الإسلامية العالمية. ولكن علينا نشر قيمها بلغة الكلمة والحوار والتخطيط المنهجي، لا بلغة العنف ورد الفعل العاطفي، بل يمكن لنا القول إن أفضل الوسائل للتخفيف من الصراع بين الحضارات هو التزاوج بينها والحوار بين الأديان. لا يستطيع أحد أن ينكر أن الغرب، من خلال مدنيته، قد قدّم للبشرية خدمات جليلة في مجال العلم والتقنيات، وقد تفوّق علينا في القرون الأخيرة، وإن كان قد استفاد منا كثيراً في عصر نهضتنا الإسلامية.
لقد أوقع الإعلام الغربي قصدا الحكومات الإسلامية في عراك سياسي واقتصادي مع الدول الغربية حول الإساءات الدينية إلى الرسل والأنبياء, المقصود منها تحويل صراع الحضارات إلى المرحلة الأخيرة وهي المواجهة, وأعتقد أن الكل يوافق على أنهم يخططون بعناية لكل مرحلة, بينما نحن في دوامة ما بين التزاماتنا الدولية في الخارج والمطالب الدينية والمدنية في الداخل. السؤال وسط هذه العاصفة ؟ هل نقبل بأن ندفع وننساق إلى تخطيطهم, أم الأفضل التحضير للرد عليهم من خلال منظمات الأمم المتحدة وحقوق الإنسان, ومطالبة منظمة المؤتمر الإسلامي وجامعة الدول العربية واتحاد المحامين العرب بوضع تشريع ونظام عالمي تحت إشراف الأمم المتحدة يجرم كل من يعتدي على الأديان السماوية ويسيء إليها.
والسؤال الآخر: لماذا تحركت الحرية الفكرية على الدين الإسلامي في هذا الوقت بدءاً من الدينمارك ثم النرويج ثم فرنسا وإيطاليا؟ في رأيي أن الإعلام الغربي يتحرك لهدف أعمق من الحرية الفكرية, وليس كما قيل إن المجتمع الإسلامي يريد فرض قيمه الدينية على العالم الغربي بالقوة والعنف مثلما ادَّعتْ ذلك الصحف الفرنسية والإيطالية.
المقاطعة لها سلبياتها وإيجابياتها ولها تأثير في ما حصلنا عليه في اتفاقيات منظمة التجارة العالمية التي أضافت إلى الدول النامية مزايا اقتصادية واجتماعية ومنها عدالة الرفض والقبول لأي ميزة نسبية لأحد.
أعود إلى نقطة البداية وأقول: يجب أن تكون المواجهة بالحوار الإيجابي وتنطلق مطالبتنا من هيئة الأمم المتحدة. إن دعوتنا للحوار الذي هو رأس كل قيمة أخلاقية ولا تكون بالعنف أو برد فعل عاطفي، وديننا الإسلامي يمكن أن يؤثر عن طريق الحوار المفتوح مع الجميع، وهو عملية عدلية تأتي من خلال إدراك المرء لمطلب المجتمع المدني وهو خضوعه لصوت الضمير الإنساني. فالعنف من الجانبين لفرض القِيَم لا يولّد إلا العنف والضعف، في حين أن الحوار قد تفعل فعلها الإيجابي في البشرية أكثر مما تفعله عملية الإخضاع للقِيَم بالإكراه والقوّة، ولو لم يكن الأمر كذلك لما قال الله تعالى: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بَالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}.
ومنذ فجر الرسالة الإسلامية وسيدنا رسول الله محمد، صلى الله عليه وسلم، يمثل الجانب الأخلاقي المتفاعل مع الحياة ومستجداتها، فهو يريد للإنسان أن يسيطر أولاً على حرية نفسه بإيقاظ الضمير فيها، ونعني بذلك الأخلاق الثابتة، التي ترفع من جاهزية الإنسان الإيمانية، لقد أكد رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، في أكثر من مرّة أن خير الأمور الوسط، وهو ضرورة التمسك بالفضائل ونشرها بين الناس. ولكن كيف نبلِّغ للمجتمع الغربي هذه الفلسفة الإنسانية التي ترعى فينا الجانب الروحي والأخلاقي, إن الطريقة المثلى لتبليغ هذه الفلسفة الأخلاقية هي بقوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}.
إن الإسلام يعترف بالآخر، ويدعو إلى الحوار معه، ويطلب منا أن نجادلهم بالكلمة السواء بيننا وبينهم، ويمكننا القول أيضاً: إن الإسلام يدعو إلى البحث عن القواسم المشتركة بيننا وبينهم، ويحثنا على الرفق في تعاملنا معهم وليس على العنف، وفي الوقت نفسه لا يمكننا أن نتجاهل في حوارنا مع (الآخر) الغربي، أنه يعيش أزمات نفسية خطيرة، ومن الطبيعي أن يكون منشأ هذه الأزمات عدم القدرة على تأمين التوازن النفسي في ظل الحضارة المادية المسيطرة على نواحي الحياة كافة.
إن المشكلة الكبرى التي يعاني منها الإنسان الغربي هو أنه لا يستطيع أن يرفع بصره إلى السماء، بل تراه دائماً يركِّز بصره على الأرض، لدرجة أنه توصّل أخيراً إلى إنكار عالم السماء وتفضيل عالم التراب عليه.
وقد صدق المفكر الفرنسي روجيه غار ودي في كتابه القيِّم (وعود الإسلام) حينما قال عن الصراع بين الإسلام والغرب: (إن مأساة الغرب تكمن في اعتماده على النمو المتواصل دون هدف إنساني وأخلاقي.. لقد وجدتُ في الإسلام نظاماً اجتماعياً واقتصادياً وأخلاقياً، يصلح لإخراج البشرية من ورطتها الحاضرة حيث فشلت الرأسمالية والماركسية كنظم وضعية في إنقاذ الإنسان المعاصر من مشكلاته).
دعوة إلى المصالحة مع نفوسنا بما نملك من قِيَم عالية، لنكون قادرين على تغيير العالم، فالتغيير يقتضي منا أن نغير أنفسنا أولاً ثم بعد ذلك نسعى لتغيير كل ما حولنا، ولكن علينا أن ندرك دائماً وأبداً أن التغيير له هدف، وهذا الهدف هو حقوق الإنسان على الأصعدة والمستويات كافة. بينما الحضارة الغربية لم تعرف شيئاً عن حقوق الإنسان حتى عام انتصار الثورة الفرنسية 1789-1791، حيث وضع المفكّر أمانويل جوزيف سبيس وثيقة حقوق الإنسان وقد استمدّ سبيس العديد من أفكار هذه الوثيقة من أفكار ومؤلفات الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو.
وهنا يمكننا أن نلاحظ بوضوح أن القِيَم التي أوجدها الإسلام قد وُلدت قبل وثائق حقوق الإنسان في الغرب بقرون عديدة، ولعلّ أعظم قيمة أخلاقية ينادي بها الإسلام ويؤكدها في أخلاقياته هي الحرية الشخصية وحرية المعتقد، فالحرية في الإسلام تعني انطلاق الحياة وانفتاحها على التطور والإبداع. وحتى نؤكد هذه الحقيقة دعونا نتوقف عند بعض الآيات القرآنية الحكيمة لنتبيّن صدق قولنا: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الْغَيِّ}. {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}. {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآَمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ}. {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً}.
وما يميز النص القرآني أنه يخاطب الإنسان الأبيض والأسود والأحمر والأصفر بالأسلوب نفسه، بينما نلاحظ أن الوثيقة الأولى لحقوق الإنسان تخاطب في الدرجة الأولى الإنسان الفرنسي، وكذلك الحال بالنسبة إلى وثيقة حقوق الإنسان الأمريكية التي تخاطب المواطن الأمريكي أولاً. إن القِيَم التي يسعى الإسلام لتحقيقها، هي القِيَم التي يحتاج إليها الغرب لِرَأْب الصدع في بنيانه الفكري وتكوينه النفسي، ولكن عندما نقول: القيم الأخلاقية الإسلامية، فإننا نقصد تلك المبادئ التي حمل الإسلام لواء الدفاع عنها بكل ما ملكت من قوة وإيمان وصدق؛ ولاءً للمبادئ السماوية الخالدة وبهدف وجُوده على سطح هذه البسيطة، على الرغم من تقلُّص المسافات الجغرافية التي تفصل بين أبنائها. نعم إن النظريات الوضعية وما تحمله من مزايا يمكن أن تقدم الفائدة لمجتمع ما، ولكن هذه الفائدة لها عمر قصير، إذ إنها لا تعيش طويلاً أمام التغيرات العالمية المتتالية التي تمثل السنة الطبيعية للمجتمعات البشرية.
إن شعب المملكة العربية السعودية المتمسك بالمنهج الإسلامي عقيدة ونظاماً وتشريعاً الذي امتدت ثوابته في جميع الدول الإسلامية التي تمثل ملياري نسمة من سكان الكرة الأرضية يحق له التفاعل ضد هذه الإساءات والذود عن عقيدته الإسلامية باستخدام السبل كافة بما في ذلك سلاح المقاطعة المدنية. ولكن لا بد من انتهاز هذه الفرصة لجر العالم الغربي إلى لغة الحوار العاقل المتزن فنحن ننادي بتطبيق منهج الوسطية في الإسلام لما في ذلك من صلاح وخير، كل الخير، للأمة الإسلامية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي