أبو شوشة: الريال النمساوي وقصته المثيرة
<p><a href="mailto:[email protected]">sowayan_media@yahoo.com</a></p>
دخل الريال النمساوي إلى نجد مع إبراهيم باشا في حملته ضد الدرعية التي استغرقت سبع سنوات. كان الباشا يدفع خمسة ريالات نمساوية لكل من يقتل نجديا من الأعداء ويقطع رأسه ويأتيه بأُذُنَيه. وظل الريال النمساوي عملة معتمدة في جزيرة العرب حتى تم استبداله بالريال السعودي سنة 1928. فما هي قصة الريال النمساوي؟
أهدت لي صديقتي كلارا سمبل Clara Semple كتابا صدر لها هذا العام عن دار برزان للنشر في لندن عنوانه "أسطورة فضية: حكاية دولار ماريا ثريساA Silver Legend: The Story of The Maria Theresa Thaler". يتحدث الكتاب عن قصة ما يسمونه عندنا الريال الفرنسي، علما بأنه في الواقع كان يُسَكّ في النمسا، وهي قصة مثيرة وممتعة، ومفيدة أيضا، أردت أن أشرككم فيها. ولا بأس من الإشارة أولا إلى أن كلمة thaler المستخدمة هنا هي الكلمة التي اشتقت منها لاحقا كلمة دولار dollar.
هذا الدولار سكته ماريا ثريسا Maria Theresa إمبراطورة هابسبرج Habsburg النمساوية التي توفيت عام 1780. تظهر صورة الإمبراطورة على الدولار وقد جدلت ضفائرها وربطتها إلى أعلى على هامة الرأس، ومن هنا اتخذ الدولار اسمه الشائع عند العامة في نجد "أبو شوشة" أو "الشوشي" (وجمعها "شواشا"). وعلى الوجه الآخر تظهر شارة السلطة النمساوية المتمثلة في التاج ونسر برأسين، ومن هنا أيضا جاءت الأسماء الأخرى للدولار مثل أبو ريش وأبو طير وأبو راسين. ومن أسمائه الأخرى "أبو نقطة" لأن دبوس التاج الذي تلبسه الإمبراطورة منقوش بتسع نقط.
وكانت قد جرت العادة أن تُسَك بعد وفاة الإمبراطور عملة جديدة باسم الإمبراطور الجديد وتسحب العملة القديمة من التداول، لكن الإمبراطور جوزيف الثاني رأى من الحكمة أن يبقي على عملة والدته الإمبراطورة ولم يستبدلها نظرا لما حظيت به من ثقة وانتشار واسع بين المتعاملين والتجار في أنحاء المعمورة. وقد ظل الدولار النمساوي هو العملة النقدية السائدة في جزيرة العرب وبلاد الشام والعراق ومصر وعموم منطقة الشرق الأوسط لمدة مائتي عام، منذ نهاية القرن السابع عشر وحتى بداية القرن العشرين مع ظهور الدول العصرية في المنطقة، منافسا بذلك الدولار الإسباني والمجيدي العثماني لأنه، بخلاف هاتين العملتين، لم تكن قيمته رمزية يمكن أن تنزل بمجرد سحب الغطاء عنه، بل كانت قيمته أساسا في ذاته، أي في ما يحتويه من الفضة، كما لو كان سبيكة من الفضة الخالصة. وقد عملت السلطات النمساوية كل ما في وسعها للحفاظ على ثقة المتداولين بهذه العملة فصمموه بإتقان وحفروا نقوشه بطريقة تجعل من الصعب تزييفه أو تقليده بعملة مغشوشة تمذق بكميات طفيفة من المعدن الخسيس، وهو ما يسمى debasement. كما حفروا على حافته نقوشا تجعل من الصعب حكه من الأطراف بطريقة تسمى clipping، كانت تلجأ إليها أحيانا بعض الدول في الماضي من أجل استلاب مقادير طفيفة تصعب ملاحظتها من قطع النقد الفضية والذهبية.
ويعد الدولار النمساوي من أجمل القطع النقدية، له بريق ولمعان يخطفان البصر إضافة إلى النقوش الدقيقة والصورة المهيبة للإمبراطورة على الوجه والتاج النمساوي على الوجه الآخر مع صورة النسر برأسيه وجناحيه المفردين. لذا لم تقتصر استخداماته على وظيفته كعملة نقدية بل لقد استخدمه الصاغة في صناعة الحلي النسائية والرجالية، فزينوا به مقابض الخناجر مثلما صنعوا منه القلادات والعقود والأحزمة، وربما أذابوه ليصنعوا منه أنواعا أخرى من الحلي والأقراط. ولأن الإمبراطورة التي تزين صورتها الدولار أنجبت ستة عشر طفلا فقد لبسته النساء في الشرق كرمز للخصوبة واعتقادا منهن أنه يجلب الحظ ويساعدهن على الحمل. ولبسه البعض اعتقادا منهم بالقوى السحرية للنسر ذي الرأسين الذي تزين صورته الوجه الآخر من الدولار، كما استخدموه كحرز أو حجاب لدرء العين لأن بريقه الباهر يصرف نظر الحسود إلى الريال بدلا من لابسه. واستعمل كثيرا في الحلي البدوية لأن الفضة أصلب من الذهب وأكثر مقاومة للثني والطعج لذا فهي أكثر ملاءمة لحياة البدو التي تقوم على الحل والترحال. ولأن الفضة أرخص من الذهب فإنه من الممكن عمل حلي حجمها أكبر من الحلي الذهبية مما يعطي مجالا أرحب لعمل النقوش والزخارف. وإذا استخدم الريال النمساوي كحلية فإنه عادة يعلق بالمقلوب بحيث يكون رأس الإمبراطورة للأسفل تمشيا مع تعاليم الدين التي تحرم الصور، والبعض يفضل أن يعلقه بحيث يكون الجانب الظاهر هو الجانب الذي تظهر فيه صورة النسر برأسيه وجناحيه والتاج.
تتقاطع حكاية الريال الفرنسي في بعض فصولها مع حكاية القهوة. كان لاكتشاف القهوة التي بدأت زراعتها في اليمن مع بداية القرن السادس عشر دور مهم في تدفق الريال النمساوي إلى أسواق الجزيرة العربية. يقال إن الأوروبيين تعرفوا على القهوة بعد أن خلفت القوات التركية أكياسا منها لما انسحبوا من حصارهم الفاشل لمدينة فينا سنة 1683. بعد ذلك افتتن الأوروبيون بالقهوة وصاروا يستوردونها من مخا ويشترونها بكميات كبيرة، وانتشرت المقاهي في شوارع المدن الأوروبية. وكثيرا ما اضطرت السلطات الأوروبية إلى إغلاق تلك المقاهي لمنع التجمعات والنقاشات الحادة التي كانت تدور فيها والتي كثيرا ما تنتهي بمظاهرات صاخبة ضد الدولة، ورأت السلطات في تلك المقاهي أوكارا لتدبير المؤامرات والنشاطات المشبوهة. وقد أراد شارل الثاني أن يغلق المقاهي في إنجلترا لأنها "مصدر للمشاغبات السياسية ومركز لتحريض الشعب ضد الحكومة ومنبع للحركات المخلة بالأمن". أما في البلاد الإسلامية فقد احتج العلماء على المقاهي لأنهم رأوا فيها وسائل لهو تصرف الناس عن الصلاة والعبادة، إلا أن الصوفية، خصوصا أصحاب الطريقة الشاذلية التي أسسها أبو بكر بن عبد الله الشاذلي، أدمنوا شرب القهوة لأنهم رأوا أنها تساعدهم على السهر وتنشطهم للتهجد، ومن هنا سميت القهوة في نجد الشاذلية.
جاء اكتشاف القهوة في الفترة نفسها التي تم فيها اكتشاف الأمريكتين والتي كانت مناجمهما الغنية تمد أوروبا بكميات كبيرة من المعدن الثمين، إذ استخدمتها أوروبا لسك عملاتها النقدية من الذهب والفضة. لذلك كانت السفن الأوروبية تمخر البحر الأبيض المتوسط شرقا محملة بالأكياس المعبأة بالريالات الفضية لتعود أدراجها محملة بأكياس القهوة. وبالمقابل كانت مراكب الدّوّ تمخر مياه الخليج والبحر الأحمر والمحيط الهندي جيئة وذهابا محملة ببضائع الشرق والغرب. وقد ساعدت تجارة التوابل المستوردة من الهند والجزر الشرقية على زيادة حجم التبادل التجاري بين آسيا وأوروبا، خصوصا بعد نشاط رحلات الاستكشافات الجغرافية والنشاطات الاستعمارية والاستيطانية. وقد استفادت جدة في تلك الفترة من موقعها ولعبت دورا مهما كميناء رئيسي ومحطة للشحن والتفريغ. فقد حولت الدولة العثمانية ميناء جدة إلى محطة للتوزيع ودفع الضرائب وغيرها من المكوس ورسوم الشحن والتفريغ. وبعد التفريغ كانت الحمولات الكبيرة تجزأ إلى حمولات صغيرة وتنقل إلى موانئ البحر الأبيض المتوسط ثم إلى أوروبا.
قبل عصر البنوك كان الملوك والأمراء والتجار يكنزون ثرواتهم من الذهب والفضة في حاويات معدنية ويدفنونها تحت الأرض. يقول ليسلي بورير Leslie Borer مدير بنك باركليز Barclays Bank في أديس أبابا إنه حينما تم فتح البنك هناك سنة 1941 بدأ الإثيوبيون بنبش كنوزهم من الريالات النمساوية لإيداعها في البنك. ويحكي مدير البنك المتاعب والصعوبات التي واجهها موظفو البنك وهم يعملون ليل نهار لشهور عدة لعد هذه الملايين من الريالات التي علاها التراب والغبار، مما اضطرهم إلى لبس الأقنعة أثناء أدائهم تلك المهمة. وفي حرب تحرير الكويت، طلبت الحكومة السعودية من العمال اليمنيين مغادرة البلاد مما أدى إلى توقف التحويلات النقدية التي كان العمال اليمنيون يبعثون بها من السعودية إلى بلادهم. ولمواجهة هذه الأزمة، اضطر اليمنيون إلى نبش ما اكتنزوه ودفنوه تحت الأرض من الريالات النمساوية وكانت سيارات اللوري تغادر أسواق شمال اليمن أسبوعيا محملة بأكياس الريالات النمساوية متجهة إلى جدة لصرفها عند البنوك والصرافين هناك.
لم يدخل النصف الثاني من القرن العشرين إلا وقد تضاءل الطلب بشكل حاد على الريال النمساوي، وإن لم ينته تماما. إلا أنه ما بين عامي 1976 و1978 قفز الطلب عليه وسكت دار الضرب في فيينا أكثر من 22 مليون ريال صدرتها للسعودية. يعود السبب في ذلك إلى التضخم الذي كانت تعاني منه المملكة آنذاك وإلى أن السعر العالمي للفضة قفز في تلك الفترة إلى ما يقرب من 54 دولارا للأونصة. لكن هذا البالون السعري انفجر بنهاية عام 1980 وعادت أسعار الفضة إلى معدلها الطبيعي.